:
لم يحسن المدادُ بصاحبه ظناً ، لينقصَ في قائمةِ الله ِمن إيمانه بقدر سوءِ ظنه بصاحبه ، الذي شاخ
في محرابه مترهباً ، يبتهلُ في معبده لربه ، مستغفراً كبوات مداده ، وعثرات قلمه ، فنذر لله عن الكتابة
صوما من شروق شمسِ الألم إلى أن يذوبَ قرصُ صدى أوجاعها في أفقٍ يتقيأ طعنَ الغدر وغدرَ الطعن
سما زعافا ،
فليفظه غروبا باهتا في عينٍ حمئةٍ ليتجشمَ راهبُنا بالعناء أن لا يكلم الناسَ إلا رمزا ، وإن كانت تزف
بشرى تمتمات تسبيحه الملائكةُ إلى ربها : "صوتٌ معروفٌ من عبدٍ معروف "، وهو سابح في ملكوت الله ،
يحلق في فضاءات من نور عرش الله ، نورٌ على نور هداه اللهُ لنوره واللهُ له يهدي من يشاء ، ولكن
شرعةَ " إن لمدادك وقلمك عليك حقا " قطعت عليه صوفيتَه ، ولم يكن له عن مذهب شرعته مذهبٌ ،
فطالما علم أن من تعاليمها السنَ بالسن ، فأرادت غريزةُ الإنسان بداخله ردَّ الدين للقلم الذي ساء به
ظنه ، ولات ملامة تحيق به إن فعل ، فامتثل شرعتَه وقال لقلمه : "لا تثريب عليك اليوم يغفر الله لك ولي
وهو أرحم الرحمن الراحمين " ، فبكى القلمُ العَمِيُّ إذ آنس من أنامل صاحبه ريحا فارتد بصيرا بعد حرجه
من الفَنَد ، واستوى على عرش صاحبه ، وخر له ساجدا لا يلوي على شئ ، وأتته على رَغْم بناتُ فكره
في حرمٍ من أضغاث أحلام فهتف بهن : اذهبن فأنتن طليقات ، فطفق يخصف تأويلَ رؤياه ، ولكنها بقيت
على جناح طائر هوى بسم الأفق في قعر سحيق ، فاحترقت الرؤى وذابت على شفة الصمت كلمةٌ من
عتب ، وزفرةُ من بوح فلبس لأْمةَ الكتابة وما كان له إذ لبسها إلا ينثر وجعه ويزفر فِلَذَ كبده ، على أجادبَ
من ورق لاتمسك ماءَ البوح ، ولا تنبت أزهارَ النزف ، فغرق حينها في ضباب من أسى شك شفيف ،
لتستفيق طفولةُ يقينه على إثْر بقايا خنجر أزرقه السم ، كانت مذيلة ببصمة لأنامل أعز
صديق له في خاصرة ظهره غدرا ، وأعظم بها من رزية حتى ولوهانت على صاحبها جبالُ الرزايا فما انتفع
بأن يبالي ، ولو تلا كربَ المصائب من طعنة يد كان أكبرُ ظنه أنها سترفع دونه صدرَها لتتلقى عنه سمَّ
الخنجر وِجاءً له ، ورُزي بأن طعنته النجلاء براحة يمين من خاب به أكبرُ ظنه كخيبة ظن قلمه فيه ،على جبل لتصدع
من عظم الجريرة التي وسع فتقُها رتقَ سماء الخطيئة وفضاءَ الذنب ، ، وما ابرئ الأقلامَ ،
وإنها وكثيرا من خَفِيِّ دواخل أعز الأصدقاء ، لأمارة بالسوء ، الآن حصحص الحقُ ، وهذا تأويل من قبل
رؤياه ، التي احتضرت وهي تستجدي من يلقنها شهادةَ حرف بلغ على جناح طائر عنان السماء ، فخرت
به الرؤيا بذات الغدر في سِجّين ، وما كلٌّ ككليم الرحمن - عليه السلام - قويٌّ أمين .
فاختنق بالصمت ، ولم يرقب به ليلُ همه ، ودجى غمه إلاً ولا ذمة ، فانبرى لكسر صوم قلمه ، وأنى له
بالعذر معذرة إلى قلبه كصنيع من خاله أعز صديق ، وأصدق عزيز ، فلدغه جحرُ القلم مرتين ، وما في
إيمانه من شك ، ولكن لؤمَ القلم تذرع بشرعته مجددا ولم يكسر لوجع صاحبه صوما لعدةٍ من أيام أخر ،
أقلت مسبقا : إن الأقلام لأمارة بالسوء ؟!
فأيقن - بعد أن شاخت طفولةُ يقينه وبَلَتها الأيامُ حتى اشتدت بالتجارب عودا ، وأصبحت كربيئة القوم رأيا -
أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، فهتف بها هاتفٌ من سَحَر غرد بمزمار داوودي بصوت الإيك : " وإذا سألك
عبادي عني .." فسكنت بكلام ربه نفسُه إذ علم عين اليقن أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، وتفكر في
نفسه ، فلم يجد ذاتَ أنواط يعلق عليها كبيرَ أمله ، ومنتهى مأمله ، ومرت قِدْم عينيه بضاعتُه المزجاةُ ،
فربح ربحا عظيما بيعُه : طعنةُ صديق نجلاء ،وحبيبٌ باعه بثمن بخس دراهم معدودة ، وقلم يبسط له وبلَ
غيثه ليبلغ بمداده من قَحْط الورق هشيما تذروه الرياح وما هو ببالغه . وإن كان مبلغُه سرجَ سابح .
ووالله لو رام أن يبدي لبضاعته امتنانا بما في الأرض من شجرةٍ أقلامٍ بمدادِ بحرٍ يمده من بعده سبعةُ أبحر
لما ناء بثقل رَقْمه حرفٌ ذاب على شفةٍ لم تنبس ببنت ، فكيف به إن كان سينوء بدفق حمم الألم ، وإنها
لتنوء بها العصبةُ أولي القوة .
فيمم وجهَه شطرَ قبلة يرضاها بعد أن سئم تقلبَ وجهه في السماء ، وصعّدَ بصرَه قِبَل وجهه : اللهم إني
أسألك بعزة وجهك وعظيم سلطانك ، ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام أسألك باسمك الأعظم الذي إذا
دعيت به أجبت وإذا سألت به أعطيت ، وأعوذ بنور وجهك الكريم ، أن ترسل سماء الحرف على عبدك
مدرارا وأن لا تكله لقلم كليل طرفة عين ، وتزجي له بالكلمة سحابا ثقالا ينقله لقلب ميت ، وتحي هشيم َ
ورق جفت به الأقلام ، وترسلَ له صواعقَ البيان ليصيبَ بها من يشاء ، لئلا يجادلوا في يراعٍ شديد
المحال !! فارتجّت لدعوته حُبُكُ السماء ومالها من فروج ، وضجت ملائكةُ كل سماءبأمر ربها : بأن يارب
صوت معروف من عبد معروف !!
ورأى وميض َالبرق بين خَلَل يديه المتصلبتين نحو السماء ، ورآه عارضا ممطره ، فقطرَ الغمامُ شؤبوبَ
البيان ، وجادت كلُّ سماء بودق حرفها ، وتفجرت الأرضُ ينابيعَ كَلِم ٍفاستحالت أنهارَ بلاغة وأوديةَ فصاحة ،
وقيل يا أرضُ ابلعي قحْط َهشيمك ، وجدْبك ، ويا سماءُ أقلعي ، وغيظَ حبرُ المداد ، واستوت على جودي
الورق في بابل رزاياه ومصائبه ، لتصبح الأوراقُ في دفتره المركون في غَياَبت رفوف الذاكرة مخضرة ً،
وتنبت أزهارَ الكلمة على شفة البيان بعد أن ذوت قبل إطلاق شَكْل مداد محكمات شكْله ، لظهور حرف ،
أنضج كبدَ صاحبه ، وهاهو ملكُ مملكة اللغة وشريفُ أسياد البيان ، فليُلق خطاب الملك على مسمع
مملوكه ، بلسان المتنبي المأسور بداخله شدا بالوثاق ، وله فيه تصهال ، وليسمح له أن يمارس كبرياءه
ويعبث بعبيدٍ من مملكةحروفه ، إن العبيد لأنذالٌ مناكيد ، وما دام أعزُّ صديق زِقَّ رياح فلا وألف لا ..
أأقبض نفسه بقدر نداءاتي -التي قَهْقَه سُخْرا لها رجعُ الصدى- ، بعودٍ لنتن روحه في أطراف يدي .
لا والذي شرح بصدري ذلَّه ، وإنكسارَ عينينِ طالما غرقتُ في موج بحرهما ، وسَبْل جفنيهما وخَلج
هدبيهما ، هو أدنى من الموت منزلة ، ليعيش الهوان على الناس ، ولا يحكي الناسُ أني أستبدل الذي
أدنى بالذي هو خير ، فإن قال متنبي مِقْوَلي :
وعذلت أهل العشق حتى ذقته .. // .. فعجبت كيف يذل من لا يعشق ؟!!
فحل عقدة لسانه ببيت كهذا وافقهوا قوله بقوله :
" عواذل ذات الخال فيّ حواسد ..// وإن ضجيع الخود مني لماجد
يرد يدا عن ثوبها وهو قادر .. // ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
فمن فَقِهَه سيعلم : أنيَ لما أنخت الرماح // فوق مكارمنا والعلا
وأني وفيت وأني أبيت // وأني عتوت على من عتا
:
:
وكل ماشية الخيزلى فدى كل ماشية الهيدبى
وكشعرة في مفرقي ماخلق الله ، وأستغفره مما لم يخلق وأتوب إليه .
ما أتعس َشخصا يقصر نورَ روحه ، وماءَ حياته في شخص !! ، ولا يعيشها إلا من خلاله ، وتحقيق رغبات
مزاجٍ بِحَظِيّهِ يتقلب !! ويزجي له بالعذر أخطاءً لم تقترفها يداه ، وما أضيقها وقتذاك !! كسَمِّ خياطٍ يُنفذ
بثَقْبه جملا كالجبل !! يسعر نارا لغيره ضوؤها ، ويحطب لرضاه بحبل غيره ، ليوافق حين غرة رضا محبوبه !!
ما أغباه ومن سار سيره !! فكيف بمن يجْعله حادي سراه ؟!! مهامهُ من جهله والعمى ، ظلماتٌ كتفُ
بعضها يزحم بعضا !! لتندى له ناصيةُ الغزالة ، ويغدو لأم دفر أضحوكةَ مساءٍ بين صديقاتها الأنيقات ، إن
كانت تعترف بصحبة ،
ومالعشقُ إلا ذلة لا ترضي سليلَ مجدٍ من نسب ، يسمو سموا في السما لتخر طيورُها له صافاتٍ
ويقبضن .
رحم اللهُ ابنَ حزم ، وكتب لكل أحمق أن يسهرَ ليله بتقليب " طوق الحمامه " ويسمع عن عشاق الأحلام ،
ليتمتم بمقال الغابر :
" أعرف أن العالم في قلبي ... مات !!
لكني حين يكف المذياع .. وتنغلق الحجرات ..
أنبش قلبي ، أخرج هذا الجسد الشمعي ..
وأسجيه فوق سرير الآلام ..
أفتح فمه ، أسقيه نبيذ الرغبه ..
فلعل شعاعا ينبض في الأطراف الصلبة ..
لكن تتفتت بشرته في كفي ..
لا يتبقى منه سوى : جمجمة وعظام .. "
ما أتعس الإنسان وخلق ضعيفا جهولا ، يضيق برحْب الأرض لتتسع له وبه طُرْقُ المظالم !! فيستعذبها
كالبارد من الماء على كبد الظمأ ..
تبا له !! وتبا لكل من نكث عهودَه وحنث بيمينه وفاءً لأستاذٍ له يعلم يقينا أن تلميذه قد فاقه ولا طاقةَ له
بتلميذه وجنودِ علمه واطلاعه ولا زال يُدِلُّ عليه وكم من دائلٍ أنا سيفه أما يتوقى شفرتي ما تقلدا ؟!!
ليخيب بي من علق كبيرَ عشمه
على كتف ضعيف مثلي ، وقد أعذره سلفا فأبى وحمل ما أشفقت
منه الجبال وأبين منها .
فلعل من كبّر بي العشم أن تجود نفسُه بعذر لي -إن لم يخشَ موجا وعاصفة ، وأبحر فكان مصيرَه
الغرق ُ-
هذا عشم من خان العشم ..
:
: