من الطائف إلى غوانتانامو قصة تحول شاب سعودي من الاعتدال إلى التطرف
أسرع الرجال الثلاثة عبر شوارع مدينة جدة مساء أحد أيام السبت من شهر ابريل الماضي عقب الفراغ من أداة صلاة العشاء. اثنان منهم كانا ملتحيين وقد قاما بتقصير ثوبيهما إلى ما فوق الكاحل.
شرع السكرتير في ادخالهم إلى المكتب الداخلي للمحامي احمد مظهر الذي رحب بهم وقام بتقديم واجب الضيافة لهم.
وسأل عبدالله الجعيد (34 عاماً) مدرب الاتصالات بالجيش السعودي المحامي مظهر ما إذا كان قد استلم الوكالة التي حررها له فكان الرد بالايجاب. كان المحامي مظهر الذي كلفته وزارة الداخلية السعودية بمتابعة مصير أكثر من 120 سعودياً محتجزين في معسكر غوانتانامو بكوبا يستعد للسفر إلى واشنطن للنظر في امكانية الاستعانة بخدمات محامين أمريكيين لتولي مهمة الترافع عن المعتقلين أمام الجهات المختصة في الولايات المتحدة. وسأل الجعيد الذي كان يتوق إلى زيارة أمريكا يوماً ما منذ أن كان صبياً يرعى الغنم في جبال الطائف الذي تبدل فضوله في الثلاث سنوات منذ اعتقال شقيقه في باكستان إلى هاجس من النظام القضائي الأمريكي - المحامي مظهر إذا كان ممكناً مرافقته في هذه الرحلة فهو على أتم الاستعداد ولكن الأخير رده بلطف موضحاً له بأن الترتيبات قد تمت لسفر شخص واحد فقط. وعمد المحامي مظهر إلى طمأنة الرجال الثلاثة على مصير أشقائهم المحتجزين في غوانتانامو وأعرب لهم عن استعداد عدة محامين أمريكيين على العمل معهم وان النظام القضائي الأمريكي قد برهن على استقلاليته عن الحكومة وهو أمر يعتبر في صالح المعتقلين. ويمكن تقسيم حياة عبدالله الجعيد إلى قسمين متميزين: الفترة منذ إرسال أخيه إلى معسكر غوانتانامو في يناير 2002 والسنوات الواحد والثلاثين قبل ذلك. كان الفراق فجائياً وقد انتزع عبدالله من حياته الرعوية ليضعه في مواجهة ضد أعتى دولة في العالم وفي وسط حكم محكمة عليا ضد الحكومة الأمريكية. والتحق عبدالله الذي ترك الدراسة بعد الكفاءة المتوسطة بالجيش السعودي في عام 1988 وهو في الثامنة عشرة ولم يتركه منذ ذلك الوقت. وبعد عشر سنوات من الغربة عاد عبدالله إلى كنف عائلته بالطائف. وفي أوقات فراغه كان عبدالله يشارك والدته في رعي أغنامها و يعود للصلاة في المسجد مع أشقائه الذين يصغرونه سناً ومن بينهم عبدالرحمن - العاشر بين اقرانه الاثني عشر - المراهق صاحب الشخصية الاجتماعية المرحة الذي يتكدر فقط عندما يهزم الفريق الذي يشجعه. في أحد أيام ربيع هذا العام التقيت عبدالله في أحد فنادق جدة عندما فتح ملفاً رمادياً ليخرج منه صورة جمعته وشقيقه المعتقل عبدالرحمن وعدد من اصدقائهم في احدى حدائق الطائف. كان عبدالله - 17 عاماً - في تلك الصورة يرتدي بنطال ركض من ماركة رياضية شهيرة وقميصا وتبدو على محياه النباهة وابتسامة خفيفة.
بعد عام تقريباً من التقاط هذه الصورة قال عبدالله بأن عبدالرحمن اخذ يتردد على حلقات تحفيظ القرآن في المساء وقد اعفى لحيته وحرم سماع الموسيقى.
بعد اكمال الثانوية، انتقل عبدالرحمن الى مكة لدراسة علوم الحاسوب باحدى الكليات المهنية واصبح لا يعود الى المنزل إلا في عطلات نهاية الاسبوع. ولكن بالرغم من التزامه كان عبدالرحمن، والحديث لشقيقه عبدالله، ما يزال يتمتع بروحه المرحة غير ان ضيق الخلق الذي ينتابه عندما يخسر الفريق الذي كان يشجعه قد اتخذ اتجاهاً آخر فقد كان يغضب عندما نتأخر عن اداء الصلاة او عندما يبث التلفزيون موسيقى او اغنية فيسارع الى اغلاقه. وكفت العائلة عن مشاهدة التلفزيون الرسمي واستعاضت عنه بالاشتراك في قنوات فضائية دينية. وبعد قضاء اقل من عام في دراسته بمكة اخذ عبدالرحمن يلح على والده للسماح له بالسفر الى باكستان لدراسة الدين وكان يرد الوالد بأن مثل هذه المدارس موجودة هنا فلماذا الاصرار على الذهاب الى باكستان. وفي ذات يوم في منتصف عام 2001 استأذن عبدالرحمن عائلته في الذهاب للمدينة لقضاء امر هناك ولمدة اسبوعين لم يسمع أحد شيئاً عنه ثم تلقى عبدالله مكالمة من عبدالرحمن اخبره فيها بأنه موجود في باكستان.
وقال عبدالله الذي غضب من المكالمة ولكنه احس بشيء من الراحة بأنه حث شقيقه على العودة وعلى الاتصال بوالديه غير ان عبدالرحمن لم يعد بشيء.
ولدى اتصاله بوالديه اخيراً، رفض والده الحديث اليه. وفي بداية سبتمبر 2001 مر شهران بدون ان يسمع شيئاً من عبدالرحمن.
لأسابيع بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر لم تسمع العائلة شيئاً عن عبدالرحمن. وعندما اخذت الولايات المتحدة في قصف افغانستان استبد القلق بعبدالله حتى تلقى مكالمة هاتفية من شقيقه الاصغر الذي استشف من طريقة كلامه بأنه مذعور وقال بأنه يحاول العودة للوطن ولكن الحدود مغلقة.
وقد حاول عبدالله الاتصال بالرقم الباكستاني المسجل في هاتفه ولكنه لم يتلق رداً. وأخذ عبدالله ينام وهو يضع هاتفه الجوال تحت وسادته لعل وعسى يتصل عبدالرحمن. وأصبح عبدالله يتردد على اصدقاء عبدالرحمن ويتصيد الاخبار في الاذاعة والصحف المحلية ليجد اثراً لشقيقه الغائب. وبعد اشهر علم عبدالله من احد اصدقائه بأنه وجد اسم عبدالرحمن على قائمة العرب الذين تحتجزهم السلطات الامنية في باكستان على الانترنت. وحمل نفس الموقع على الانترنت صوراً للمحتجزين في السجن وقد كانت صورة عبدالرحمن من بينها. وسارع عبدالله بالاتصال على سفارة المملكة في باكستان طالباً المساعدة في اطلاق سراح اخيه من السجن. ولم يكتف عبدالله بذلك بل التقى بعدد من العمال الباكستانيين في الطائف لمساعدته. وفي احد الايام في مطلع عام 2002 وبينما كان عبدالله في طريقه لمنزله بعد اداء صلاة الظهر رن هاتفه الجوال وكان الشخص المتصل مسؤولاً في وزارة الداخلية ليعلمه بأن عبدالرحمن في صحة جيدة وانه معتقل لدى الحكومة الامريكية التي قامت بترحيله الى غوانتانامو لاستجوابه وانه سوف يعود للوطن حالاً. وبعد اشهر من خبر ترحيل عبدالرحمن الى غوانتانامو تلقت العائلة أول رسالة منه عبر مكتب الصليب الأحمر في الكويت. وقد استغرقت الرسالة عدة اشهر لتصل الى الكويت. وقد اعيدت الكثير من الرسائل التي بعثت بها العائلة لعبدالرحمن دون ان تفتح. وكانت المحكمة العليا في الولايات المتحدة قد حكمت في يونيو 2004 بحق معتقلي غوانتانامو في مقاضاة الحكومة الامريكية ضد احتجازهم ورفع دعوى بذلك امام المحاكم الامريكية. وتقول الحكومة الامريكية بأن السبب وراء تمسكها بالمعتقلين لأنها تخشى بأن يتسببوا في ايذاء الامريكيين في حالة اطلاق سراحهم. ويقول عبدالله «بعد ما فعلوه بهم هل تتوقعون بأن يقوم المعتقلون بتقبيل رؤوس الأمريكيين؟ ولكني اضمن بأن لا يقوم أخي بمس شعرة أمريكي هنا أو في أي مكان إذا اطلقوا سراحه».