يا مَن تُعاني من كدرِ الحَياةِ ..
كلُّنا في هذه الحياةِ معرّضٌ لما يكدّرُ عليه صفوَ حياته، ولا بد لكل منا أن تمرَّ به أيام حزن وألم وإن كانت قلائل!
فهذه الدنيا كالحرباءِ المتلونة، لا تكادُ تستقر لأحد على حال..
فيومٌ سعادةٌ ويومٌ شقاءٌ .. يومٌ تفيضُ فيه النفسُ بشرًا وابتسامًاً، ويومٌ يغمرها فيه الحزن والأسى فتنهمر دموعُها مدراًاً!
ولكن, لا يعني ذلك أن كل من تطرق بابَه المصائبُ يفقدُ اللذةَ في الحياةِ والسعادةَ والاطمئنانَ!
إنما هناك أناسٌ قد غلّفَ قلوبَهم اليقينُ الصادقُ، وغمرها الإيمان العميقُ بالربِّ الخالق، فاستوَتْ بالنسبةِ إليهم السراءُ والضراُء، وباتوا يتلذذون بالمصيبة والبلاء كما يتلذذون بالنعمة والرخاء، فهم شاكرون لله على نعمائه، صابرون على قضائه وابتلائه.
إننا كثيرا ما نرى أناسا قد دارت عليهم الأيام، وجرت الرياح بما لا يشتهون وما لم يكونوا يحتسبون!
كم من شابٍ في ريعانِ شبابِه يزينُه تاجُ الصحةِ والعافيةِ، أصبح يئن تحتَ وطأةِ المرضِ، لا يهنأ له بال، ولا يطمئن في منام، يبذل الغاليَ والرخيصَ كي يستعيدَ صحتَه وعافيته, ويعيدَ لبدنِه نشاطَه وقوتَه.
وكم من امرئٍ كان يتقلب في صنوفٍ من الترفِ والنعيمِ، تهطلُ الأموالُ عليه هطول المطر، تغيرت حاله، فالتهمه الفقر والعوز، لا يكاد يجدُ قوتَه وقوتَ أسرتِه. أو صار أسيرًا للديونِ يلاحقه الغرماءُ طالبين لما استدانَه منهم، فلا يستطيع أن يغمض جفنا، يعيش في همٍّ وغمٍّ، وتفكيرٍ وقلقٍ، وقد يلجأ إلى ارتكابِ المحرماتِ لتسديدِ ما عليه من الحقوقِ والواجبات.
وكم نرى من أناس يعيشون مطمئنين بين أهليهم وأحبابهم، فإذا بهادمِ اللذات يفرق شملَهم، فينتزعُ من بينِ أظهرِهم أمًا حنونًا، أو أخًا حبيبًا, أو قريبًا عزيزًا، أو صديقًا حميمًا.
وغيرها وغيرها كثير وكثير مما يبتلى به الإنسان من مصائب ونوائب.
فإلى كل من يعاني من كدر الحياة ..
ألسنا مؤمنين بقضاء الله وقدره؟
ألسنا موقنين بأن كل ما يصيبنا من بلاءٍ إنما هو خيرٌ لنا وسببٌ في عظمِ الجزاء؟
فلماذا إذاً الجزعُ والتسخطُ والشكوى والأنين؟
لماذا لا نتسلحُ بالصبر والرضى والتسليمِ بما قسمه لنا ربنا الرحيم?
ربنا الذي يقول في كتابه الكريم:
"إِنَّما يُوَفّى الصابرونَ أجرَهم بغيرِ حساب"!
إن على كل مؤمن تجرّع كأس المصيبة، ونزل به الهم والغم، أن يستعينَ بالوسيلة الفعالة والبلسم الشافي، أن يلجأ بقلبٍ ملؤُه الإيمان واليقينُ إلى ربه ومولاه، الذي يقول في كتابِه المبين:
" أَمَّن يُجيبُ المضطرَّ إذا دعاهُ ويكشفُ السوء " .
فليتضرعْ إلى ربه في خشوع، وليلِحْ بكثرة الدعاء، فما أكثر من ضاقت بهم السبلُ ولجؤوا إلى الله فكشف ما بهم من ضر وكربٍ بعد أن يئسوا من الفرج .
ولرُبَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى .... ذرعًا وعند الله منها مخرجُ.
كملت فلما استحكمت حلقاتُها .... فرجت وكان يظنها لا تفرجُ.
ها هم أنبياء الله تعالى خير من تضرع إليه ودعاه يتعرضون لما تهتز له النفوسُ جزعًا، فيقابلونه بصبر ورضى وثباتٍ، ويستعينون بربهم ليزيل عنهم ما ألم بهم.
فهذا نبي الله يونس عليه السلام .. يجد نفسه في بطن الحوت، لا يملك حيلةً للخلاص، فيلجأ إلى من هو أعلم بحاله منه ويناجيه بقلب متعلقٍ به راجٍ رحمته ولطفه: "أَلا إله إِلا أنت سُبحانك إني كنتُ من الظالمين" فماذا كانت نتيجة تلك المناجاة؟: "فاستجبنا لهُ ونجّيناهُ من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين؟.
وها هو أيوب عليه السلام .. الذي ضرب أروع الأمثلةِ في الصبرِ والرضى يفقد أولاده ويُبتلى بالمرض الشديد ويهجره صحبُه، ويمكثُ كذلك مدةً ليست بالقصيرة، ولكنه لم ييأس بل كان واثقا من فرج اللهِ وأخذ يدعوه: " وأيوبَ إذ نادى ربَه أنّي مسّني الضرُّ وأنتَ أرحمُ الراحمين" فماذا كانت نتيجة هذه الثقة وذاك الصبر؟: " فاستجبنا له وكشفْنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمةً من عندنا وذكرى للعابدين " .
وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال، قلت : يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء ؟ قال :
"الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة " .
يا صاحبَ الهم إن الهم منفرجٌ .... أبشِر بخيرٍ فإن الفارجَ اللهُ.
ولتخفيف الكدر والهمِ علينا أن ننظر إلى من هم أعظم بلاءً منا، ولنا في نبيِنا صلى الله عليه وسلم خير قدوة..
نبينا العظيم الذي كان أكثر من تعرض للإيذاءِ وأعظم من أصابه الابتلاء، وأكثر من صبر على المحن، كان يصبر ويحتسب في سبيل الله وفي سبيل نشر دين الله، وكان إذا ذُكر بما يلاقيه من أذى يقول عليه الصلاة والسلام:
"قد أوذي موسى عليه السلام أكثر من هذا فصبر" .
ولا عجب في ذلك، فإنها النفسُ الساميةُ التي اختارها الله على سائرِ البشر، لتحمل أعظم رسالةٍ إلى البشر، تهون عليها كل مصيبةٍ في سبيل رضى الله تعالى ونيل ثوابه والدعوة إلى دينه العظيم.
إنها عبادة الاحتساب والصبر ..
تزيد الصلة بين المؤمن وربه وكم تحتاج لقوة داخلية وإرادة ومجاهدة
وهي لذلك تقود المحتسب إلى أعلى المراتب في الآخرة
ولكن المصيبة قد تثقل على صاحبها فلا يستطيع أن يبقى دون أن يبث ما يكدره لأحد، فإذا أراد أن يشكوَ فلتكن شكواه إلى الله عز وجل أولًا، فهو القادر على عونه، كما قال نبي الله يعقوب عليه السلام:
" إِنما أشكو بثي وحزني إلى الله" .
ومهما طال الهم فلا بد أن يأتيَ الفرج، وليس بعدَ العسرِ إلا اليسرُ إن شاء الله.
فهنيئاً لمن ابتلي فصبر واحتسب أجره عند الله
جعلنا الله من الصابرين الحامدين الشاكرين في السراء والضراء