كنت على شاطىء البحر أتأمل غروب الشمس ، وهي تصافح الشاطىء وكأنها تريد أن تطفيء نار الغضب في قلبها الساخن ببرودة ميائه الزرقاء ...فتأملت هذا البحر العُباب إلى متى ينتهي مداه يا ترى ... الأفق بعيد و لايمكن لأحدٍ أن يتكهن بالمكان الذي ينتهي إليه هذا البحر فقلت في نفسي متسألاً ...؟
هل هناك يا ترى على جزائر البحر أُناس غيرنا قد مللت والله من كثرة النفاق والتملق والتنطع والرياء فلقد أضحى زماننا جوهرة في متحف التراث لا ينظر إليها إلا في المناسبات فسبحان الله العظيم وبحمده ...وعندها يا أحبابي ...!
غادرت شاطىء البحر إلى شاطىء من نوع آخر إنه شاطىء الأفكار وبحر الأوهام ركبت سفينة لا تمشى على الماء بل تسبح في الهواء ركبتها وسافرت معها إلى مبتغاي ألا وهو جزيرة القلوب لعلي أحظى بقصب السبق فيها ... ظللت سائراً في رحاب البحر وسراب الفكرة مدة ثلاثة متواصلة من الأيام ، وقد بلغ الجهد منه مبلغه فلم استطع مقاومة النوم فلم أشعر بنفسي إلا وقد أطبقت أجفاني على عيني وكأنهما مهاد وغواش ، واستمرت سفينتي متجهة نحو الأفق لكي تبحث عن ما وراءه ... لم أشعر بنفسي إلا والذي يؤقظني من رقدتي ويقول : يا أخي ... يا أخي ... قُم رعانا الله وإياك وجعل الجنة مثوانا ومثواك قمت من جراء هذا الكلام المعسول الذي يشفي المريض المعلول وكأنه في خلية نحلٍ من التعب والجَهد مكلول ... قلت باستغراب أين أنا ..؟ أين أنا ..؟ فردّ عليّ يا أخي أنت في جزيرة بعيدة عن الأهواء والظنون تطيع الله وتبكي من خشيته العيون إنك في جزيرة بحث عنها أناس كثيرون فلم يجدوها إلا وهم متعبون ...جزيرتنا أيها الأخ المبارك المحبوب هي جزيرة القلوب ... ماذا قلت جزيرة القلوب هذا ما كنت أبحث عنه ودفعني إلى الهروب ... نعم يأ أخيّ أنت في جزيرة القلوب من فقد قلبه الصافي وفؤاده الدافي أو من مرض قلبه ويحب أن يعالجه يأتي إلى جزيرتنا ونحن نتكفل بإرجاعه بإذن الله تعالى بشروط وقيود فهذه الجزيرة أشبه بمستودع للقلوب والأوعية ولا يدخل هذه الجزيرة إلا القلوب السليمة أما القلوب الميته السقيمة التي تربت على الحقد ووالحسد فليس لها مكان بيننا ...
هيأ يا أخي لكي نقدم إليك موجبات الضيافة فنحن الضيوف وأنت رب المنزلِ .
دخلت الجزيرة مع أميرها المحبوب ، وكلما مررنا بشارع وطريق سلّم علينا أهله وصافحونا بالأيدي قبل القلوب ، وكأنهم على معرفة مسبقة بنا فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وهو يقلب القلوب ، فتذكرت أثناء ذلك أبناء جلدتي وهم كُثر والله المستعان نمر عليهم ويمرون علينا زرافات ووحدانا لا ينطقون ببنت شفة فضلاً أن تسلم من آذاهم واقتحارهم أصبحث قلوبهم أقسى من الحجر فأني لا أريد أن أعكر صفو هذه الرحلة التي لم أحلم بها .
مررنا بجولتنا على أطفال صغار في هذه الجزيرة المباركة يلهون بالتراب ويلعبون بمنظر بديع يدعو الناظر إلى الوقوف برهة من الزمن للتأمل في البراءة الطفولية على أصولها ومعايريها ليس كما نرى عندنا من خشونة الأطفال وكأنهم رعاة جمال تجد الواحد منهم طبقات السواء تلوح في رجليه من الاهمال وتذكرت نعومة الشباب اشباه الرجال وتعريّ النساء من جلباب الحياء والوقار ... سلمنا عليهم فردوا علينا بأحسن منها وقبلوا رأسي احتراماً وتقديراً فنزلت من قلبي قبل عيني دمعة اخفيتها بين جوانحي عندما تذكرت تقصيرنا في جانب أبنائنا ولم نعلمهم احترام الكبير وتوقيره نمر عليهم ويمرون علينا وكأن الواحد منهم زميل لنا مع فارق السن بيننا وبينهم لا احترام ولا تقدير ولا توقير فالله المستعان .
عندما رأيت ما رأيت وهو قليل قلت لأمير الجزيرة يا أخي ليس لي مكان بينكم أني والله لاستحي أن ابقى معكم وأنتم على هذه الحالة فكلما رأيت صفة جميلة عندكم تذكرت ضدها عندنا . فقال : لي والدموع تخنق عبرته للأسف يا أخي كنا نتمنى ذلك ، ولكن لابد قبل مغادرتك من الكشف على قلبك وإن اجتزت الاختبار صرت منا وبيننا تعيش فإنا قد لاقينا القلاقل والمصائب من أشخاص غيرك كُثر قد أعيتهم الدنيا بالهموم والأحزان فلجاؤا إلينا ونسوا من ليس ينساهم وهو رب العالمين سبحانع وتعالى فعندما اختبارنا قلوبهم وجدنها ملئت حرساً شديداً وشُهبا من الغل والحقد والحسد فرجعوا بخفي حُنين .
فذهبت معه إلى مستودع القلوب ، ولما دخلناه وجدت قلوباً معلقة على الجدران وأخرى منومة على الأسّرة ، وأخرى في زجاج والأنابيب والأسلاك عليها مكومة ..فاستغربت ..! لذلك ايّما استغراب وقلت سبحان العزيز الوهاب قلوب بألوان شتى ومن أقصى ومختلف البلدان مرسومة بأنقى وأعذب الألوان فهذه سوادء وأخرى بيضاء وهناك قلب أحمر كأنه ينظر ألينا ويتألم فقلت للأمير الأريب ذو الفعل اللبيب بقولي : ما لي أرى هذه القلوب ملونة بألوان مختلفة فتبسم ضاحكاً من قولي وقال : أيها الأخ الحبيب ، كما قال عنها أحد السلف دليل على الإنسان ومرآة ذلك الوجه ، فالوجه المنير دليلٌ على القلب الأبيض الناصح الكبير ، وأما الوجه الأسود القطمير والقمطرير دليلٌ على القلب الأسود الكسير فسبحان من بيده ملكوت كل شيء ومفاتيح القلوب بيده يقلبها كيف يشاء .
فقال لي : يا أخي أذهب وفتش عن قلبك بين هذه القلوب فستجد اسم صاحبه عليه مكتوب فتقدمت خطوة وتراجعت أخرى رجلايا لا تحملني على المسير خفت من أن أجد قلبي بين القلوب السوداء فتخيب رحلتي بالعناء وعندها توكلت على رب السماء وتقدمت خطوة ممزوجة بالحياء وذهبت أقلب القلوب وأفتش عن قلبي الضائع فوجدت قلوب أصحاب أعرفهم منها البيضاء الناصعة ومنها السوداء المدلهمة ولم أكن أتوقع أن تكون كذلك ومن خلال جولتي وجدت على ذلكم السرير البعيد في أخر الممر قلباً حوله أنابيب وأسلاك شائكة وأطباء مجتمعون حلوه يحقنونه بالأبر والمغذيات وكأنه قلب ملك فقلت يا اخواني من هذا بالله عليكم فقالوا وعيونهم تكاد أن تخرج من أماكنها من شدة الحزن والبكاء .... إنه ..... إنه .... إنه قلبك يا فلان إلم تعرفه حتى الآن لقد ضيعته وضيقته بالذنوب والعصيان وجرحته جرحاً لا يندمل مع مرور السنين والأعوام جرحته جرحاً عميقاً وكسرته كسراً لا يكتمل فقلت والعبرة تكاد بلثامها الأسود أن تخنقني آه ...آه ....آه ... هذا ما كنت أخشاه .... لقد مات قلبي أليس كذلك لقد مات منذ زمن بعيد وأصبحت بلا قلب ولكنها تعمى القلوب التي في الصدور لقد أطعت الشيطان وعصيت الرحمن على علم مني بالعاقبة الخسران وأصبحت كالعطشان الذي يبحث عن ماءٍ في صحراء السراب والنسيان فايا أيها الأطباء أليس من دواء لهذا القلب من هذا العناء فقالوا بصوت واحد ...للأسف لقد أوصلت قلبك لمرحلة لا يتسنى لنا علاجه ولكن هناك حل واحد لا ثاني له .... فقلت أدركوني به على جناح السرعة ...هيا ....اسعفوني أرجوكم ...فقالوا : لابد من إجراء عملية استئصال قلبك وزراعة قلب آخر نظيف نقي هفيف فقلت هذا مستحيل فقالوا لا مستحيل على قدرة الله عز وجل ولابد من وضعه بعد العملية في صندوق للمراقبة يمد بصمامين صمام إيمان وصمام أمان لكي تربى على الطاعة والحب ولاعرفان فقلت الأمر لله من قبل ومن بعد هيا ماذا تنتظرون ....
إنتهت بحمد الله تعالى من مقالات عام 1423هـ