رغم التطور العلمي والتكنولوجي الكبير، الذي كشف عن وسائل حديثة للتعرف على الأشخاص وتقصى أثرهم، سواء عن طريق البصمة الوراثية (dna) أو غيرها، إلا أن هذا التطور لم يغن عن قصاصي الأثر، خاصة في الأماكن الصحرواية وحيث تكون الرمال.
وعرفت البشرية في بداية تاريخها قصاصي الأثر، هؤلاء الرجال الذين وهبهم الله قوة الملاحظة والبصيرة، فكان لهم الدور الأكبر في كشف العديد من الأحداث والجرائم التي تقع في الصحراء، وقد استمر هذا الدور حتى الآن،حيث تستعين بهم الجهات الأمنية عندما تتعقد الأمور ويحتاجون إلى خيط لفك عقد الجريمة، كما أن القضاء الشرعي لا يتجاهل معلوماتهم بل يعتبرها قرينة قوية في أحكامه، طالما تؤدى هذه المعلومات إلى إيجاد حلول لقضايا تظل غامضة قبل تدخل مقتفي الأثر وقصاصيه.
حكايات تثير الدهشة
وحكايات قصاصي الأثر غالبا ما تثير الدهشة والاستغراب من قوة ملاحظتهم، فمعلوماتهم عن أثر البشر والحيوان والحشرات تدعو إلى الغرابة من حيث الدقة ومعرفة ما يدور حولهم من خلال الأثر.
وروى المواطن علي المحمد من أهالي جبة التي تبعد نحو 103 كيلو مترات شمال غرب مدينة حائل، قصته مع تقصى الأثر، وقال إنها بدأت معه منذ صغر سنه، عندما كان الرعاة يعودون من المراعي، ولم يكن حاضرا لتلك العودة، كان ينظر لأثرهم فيعرف من عاد منهم ومن لم يعد وتطورت بعد أن كبر في السن إلى معرفة دقيقة لأثر جميع من يعرفهم أو أبنائهم ومن يمتون لهم بصلة.
وعن طبعة القدم بالأرض وهل لها دلالة واضحة على هوية صاحبها قال" لا إنما طريقة المشي مقترنة بالأثر فعندما يلبس شخص ما أحذية آخر فإني أكون قد شاهدت طبعت هذا الحذاء من قبل فإني أعرف هذا الشخص وأعرف أنه يلبس الحذاء الخاص بصاحبه وقد أثبت ذلك في وقائع كثيرة من خلال أشخاص حاولوا خداعي".
وأضاف المحمد أن من القرائن الأخرى على الشخص صوته ومنطقه فعندما يتحدث رجل معه من عائلة معينة يعرف رجالها والشخص لا يعرفه تحديدا فإنه يعلم أنه ينتمي إلى هذه العائلة والصوت والمنطق أسهل من عملية الأثر.
المرأة الحامل
وحول إمكانية معرفته للمرأة الحامل والعذراء البكر قال المحمد إن الحامل يدل عليها أثرها فمثلا عندما تكون المرأة حاملاً فإن عقب قدمها يغوص في الرمال من الجهة الخلفية للأثر ......................
وعن قول البعض بأن للجن دورا في تقصي الأثر، نفى المحمد ذلك وقال هذه موهبة من الله يختص بها من يشاء، مؤكدا على أن اقتفاء الأثر والقدرة على معرفته ليست وراثة وإنما يمكن من أراد أن يكتسبها اكتسابها، وقال إنه لا يوجد سوى واحد من أبنائه بدأت تظهر عليه بوادر هذه الموهبة.
وكشف المحمد عن بعض قصصه وقال"أراد البعض اختباري فارتدى أحدهم حذاء الآخر ومشى على جدار المزرعة الخاصة بي حتى وصل إلى قسم البطيخ فنزل من الجدار وأخذ بطيخة ورجع إلى الجدار ومشى عليه عائدا حتى نزل في مزرعتهم المجاورة فشاهدت الأثر وأتيتهم وقلت: هل هذا اختبار لي فأنكروا وقلت هذا فلان يلبس حذاء فلان فقالوا صدقت وأحضروا البطيخة وأكلناها سويا".
وختم المحمد كلامه بأنه على الرغم من معرفته بكثير من الأمور إلا أنه لم يحاول جرح مسلم بها أو إيذائه أو كشف سره.
أثر الماشية
وقال ذياب بن عبدالله الوائل من أهالي جبة والذي اشتهر بفراسة الأثر إنه لا يوجد أثر يشابه الآخر وإنما يمت إليه بصلة على حسب القرابة والإنسان عندما يكون شديد الملاحظة والانتباه فإنها تنمو معه هذه الموهبة حتى يتقنها.
وأضاف أن أثر الإبل أو أثر الأغنام الماعز لا تتشابه فيما بينها وعندما تلاحظها جيدا تجد الفرق واضحا. مؤكدا على أنه يعرف أثر إبلهم وأغنامهم كافة والإبل التي تمر في ذاكرته يحفظها وعند ضياع إبلهم في الصحراء وعند بحثه عنها فإنه يعرف أن أثر أقدام الإبل لهم أو لغيرهم من خلالها فلا يتعب بالبحث عنها.
وحول قدرته على تمييز لون الجمل "أوضح أو أملح" من خلال أثره قال الوايل: إنه لا يستطيع ذلك، ولكن هنالك من يستطيع مثل عائلة "الضبان" الشهيرة والتي تستطيع أن تحدد لون الإبل من خلال الأثر.
ويروي الوايل بعض القصص التي حدثت معه ومنها ما حدث في رحلة برية مع أصدقائه وكانوا قد فقدوا إبلهم في الجهة الشمالية من النفود الكبير ورحلتهم كانت إلى جنوبه فشاهد أثر إبل فقال لأصدقائه إن هذه أثر إبلنا فقالوا له استحالة فالإبل بالجهة الشمالية من النفود ومن المستحيل أن تصل إلى هذا المكان خلال هذا الوقت، وقال: تقصينا الأثر حتى وجدنا الإبل وكانت إبلنا.
قصة أخرى رواها الوايل وقال إنه كان يقوم بجلب الماء إلى ماشيتهم وخلال طريقه مر بأثر لأغنام ليست له فلفت انتباهه أثر إحدى هذه الأغنام وعرف أنها له قد اختلطت مع أغنامهم فسأل الراعي وقال نعم لدينا نعجة ليست لنا فوصفها له فقال نعم هذه أوصافها وأخذها.
وأشار الوايل إلى أن هذه الموهبة متطورة مع مرور السنين وكثرة التجارب فكل عام يكتسب معلومات جديدة تضاف إلى معلوماته السابقة وهي ليست متوقفة عند حد معين.
العقارب والأفاعي
أما مشعل الرشيدان الذي يعرف أنواع الزواحف والحشرات وآثارها، إضافة لمقدرته على التفريق بين العقرب الصفراء من العقرب السوداء، فقال إن الأمر يخيل لمن يستمع إليك بأنه أمر كبير وهو في الواقع أمر سهل يحتاج فقط إلى دقة ملاحظة، فالواقع أن أرجل وأيدي العقرب الصفراء أوسع من العقرب السوداء وهنالك دليل آخر فعند دخول العقرب إلى جحرها فإن العقرب الصفراء لا تدخل إلى جحرها بالمقدمة بل تدخل من جهة ذيلها إما العقرب السوداء فإنها تدخل إلى الجحر من المقدمة وتكون الإبرة والذيل إلى فتحت الجحر.
وعن معرفته بالعقرب حين تكون حاملة للبيض من خلال أثرها، قال: إن معرفتها أمر سهل، فعندما تكون العقرب محملة بالبيض وتمر من خلال مسيرها بأثر لحيوان كبير مثل الجمل، فإن بطنها يسحب مع الأرض ليظهر لك خط متقطع وهذا دليل على أنها محملة بالبيض على ظهرها. وبالنسبة للأفاعي مثلا فإنه في أثرها "عكفة" تشبه الباكورة وهو ما يدل على اتجاهها هل هي قادمة أو ذاهبة وعلى حسب حجم الأثر يدل على كبرها ولا يوجد أثر لأفعى يشبه الأخرى فواحدة يكون بطنها أملساً وأخرى يكون بطنها خشنا وأخرى تكون طويلة والأخرى قصيرة.
وبالنسبة للأرانب البرية يقول إنه يفرق بين الذكر والأنثى من خلال أثرها فالأنثى يكون أثرها عريضاً بينما الذكر يكون دقيقا وطويلا، ونفرق أيضا بين الذكر والأنثى من خلال فضلاتها فالأنثى تجتمع فضلاتها في مكان واحد بينما الذكر تكون فضلاته منتثرة.
رأى الأمن
وإذا كانت هذه بعض قدرات قصاصي الأثر والتي يستفيد منها عادة أهل الصحراء، فماذا عن رأى الأجهزة الأمنية والقضاء فيما يتوصلون إليه من معلومات؟
الناطق الإعلامي بشرطة منطقة حائل قال إن معلومات قصاصي الأثر رغم أنها لا تؤخذ على أنها دليل قاطع في القضايا والجرائم، إلا أنها تؤخذ كقرينة يمكن الاستفادة منها أثناء سير التحقيقات.
وأضاف أن هنالك بعض القضايا التي حلت خيوطها بواسطتهم خصوصا إذا كان الأثر واضحاً وفي وجود متهم ينطبق عليه الأثر المرصود وإما إذا مضى على الأثر وقت طويل فإنه يتعذر عن تطبيق الأثر، مشيرا إلى أنه لا يوجد في الوقت الحالي قضايا شائكة تحتاج إلى تدخل من قبل قصاصي الأثر، ولكن هذا لا يعني الاستغناء عنهم.
ولا يتوقف دور قصاصي الأثر على عالم الجريمة فقط أو الأحداث العادية فأحيانا تستعين بهم بعض الجيوش أثناء إعداد الخطط العسكرية، باعتبارهم أكثر معرفة بخفايا الدروب والأودية الصحراوية.
الأثر والقضاء
أما القاضي بالمحكمة العامة بالأحساء الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز القاسم فيرى أن قصاص الأثر أو القافة أحد طرق الأحكام التي يعتمد عليها في القضاء، وقد عدها العلماء من الطرق الحكمية واهتموا بها ووضعوا الضوابط لاعتبارها وصحة الاحتجاج بها وهو مبسوط في كتب الطرق الحكمية وأدلة الإثبات أمام القضاء، وهي قرينة قوية ما لم يعارضها ما هو أقوى منها، وقال إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، دل على اعتبارها وصحتها، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت "دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرور الوجه تبرق أسارير وجهه فقال: أي عائشة ألم تري إلى مجزز المدلجي ( وكان قائفاً ) دخل فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض".
وأضاف القاسم أن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الشريف اعتبر هذه الطريقة وأقرها مما يدل على أهميتها ودورها في الإثبات القضائي، وهذا مبني على الأصل الكبير المقرر في الفقه الإسلامي في باب القضاء وهو أن البينة لا تقتصر على مجرد الشهود فقط، بل البينة هي ما أبان الحق وأظهره من أي طريق كانت، بل ربما كانت بعض الطرق والقرائن أقوى من شهادة الشهود وهذا له تفصيل أطنب فيه المعاصرون عند البحث في وسائل الإثبات ومدى حجيتها.
وعن اعتراف القضاء الشرعي بها قال القاسم "يقودنا هذا الأمر إلى معرفة مدى حجية إفادات قصاص الأثر، فالأصل الاعتداد بهذه القرينة على أنها قرينة لها الحجية والاعتبار ما لم يخالفها ما هو مماثل لها أو أقوى منها وتختلف هذه الحجية من إفادة إلى أخرى فعلى سبيل المثال القرينة الشرعية كقرينة الفراش الواردة في السنة مقدمة على القرينة البشرية".
وأشار القاسم إلى أن الحجية تختلف من قصاص الأثر ذي الخبرة العريقة والذي يشهد له بإصابة الحق عند التجربة مراراً عن غيره من قصاصي الأثر الذين ليس لهم الدراية الكافية في هذا المجال، فلا شك أن الشخص القديم ذا الدراية الكبيرة إفادته مقدمة على غيره. ومن الأمثال المشتهرة لدى العامة "من تردد في شيءٍ أعطي سره".
وقال إن هذه القرينة تختلف بحسب الظروف والملابسات التي تكتنف كل قضية بعينها فإفادة قصاص الأثر إذا أخذت بعد الحادثة مباشرة ومن مسرح الجريمة ليست مثل الإفادة التي جاءت بعد يومٍ أو أيام وبعد تداخل الآثار مما يضعف هذه القرينة وربما وصل إلى حد إلغائها وعدم الاعتداد بها.
وقال "كما أن هذه القرينة قد يعارضها من الأدلة والقرائن الأخرى التي تقود إلى الشك بها أو قد تضعفها مما يجعل المحكمة التي تنظر في القضية قد تلجأ إلى الترجيح بين الأدلة حسب ما يظهر من ملابسات كل القضية وظروفها، كما أن دور إفادة قصاص الأثر يختلف بحسب الحاجة إليه في القضية، فإذا أقر الجاني بتواجده في مكان معين وجاءت إفادة قصاص الأثر مطابقة لإقرار الجاني لم يكن لها كبير الأثر بخلاف ما لو أنكر حضوره للموقع وأفاد قصاص الأثر بتواجده وتطابق الآثار المرفوعة من مسرح الحادث على آثار الجاني كان لها الأثر البالغ الذي قد يغير مسار القضية".
وقال الشيخ القاسم إنه ينبغي أن يعرف بأن علم اقتفاء الأثر قد تطور تطوراً كبيراً في الوقت الحاضر وصار مبنياً على قواعد علمية دقيقة وحسابات طبية فائقة التطـور والتقنية، وهو ما يعرف في الوقت الحــاضر بعلم البصمة الوراثية أو الحمض النووي " dna "، ولم يعد التعرف على الأثر قاصراً على أثر الأقدام كما كان في السابق بل امتد معرفة أثر الدم والعظم وجذور الشعر والمني وخلايا الفم وغيرها، وبناءً عليه فإن قرينة قص الأثر إذا كانت مبنية على الحدس والخبرة ليست في مستوى قوة القرينة العلمية التي تنبني على أسس ونظريات قل ما تخطئ أو قلما يعتريها الشك.
وقال "عموماً إن هذه القرينة في الأصل قرينة قوية معتبرة وأما مدى حجيتها ومستوى درجة الاحتجاج بها فإنه يعود للمحكمة التي تنظر في ملابسات القضية المنظورة ومدى اطمئنانها لهذا الدليل أو غيره من الأدلة المقدمة إلى القضاء ولا يمكن إصدار حكم عامٍ لكل قضية لاختلاف الظروف والوقائع في كل قضية عن أخرى".
وعن وجود قضايا تم الحكم فيها اعتمادا على قصاصي الأثر أضاف القاسم أن بعض القضايا بالمحاكم مليئة بإفادات قصاصي الأثر سواء بمفهومها القديم المبني على الخبرة أو التمرس في اقتفاء أثر الأقدام أو بتقنيتها الحديثة المبنية على تحليل البصمة الوراثية، وقد أدى تطور هذا الفن إلى كشف الكثير من الجرائم والحوادث وتم الاستناد إلى إفادات أهل الخبرة بقص الأثر أو الحمض النووي في كثير من الأحكام.
وقال: مما تشكر عليه وزارة الداخلية اهتمامها بهذا الجانب فهي بدأت من حيث انتهى الآخرون وتسعى بشكل نشط وملموس لمواكبة ما توصل إليه العلم الحديث في مجال البصمات الوراثية أو الحمض النووي، ودائماً ما تقوم بتطوير وسائل كشف الجرائم بمستوى عالٍ يفوق كثيراً ما توصلت إليه أساليب المجرمين في ارتكاب الجرائم. ودعا القاسم إدارة الأدلة الجنائية بوزارة الداخلية لعدم الاكتفاء بتسجيل البصمة الوراثية لمن تصدر عليهم عقوبات وتسجل عليهم سوابق، بل لا بد من استيعاب شرائح أكبر من المجتمع لتسجيل البصمات الوراثية الخاصة بهم فكلما تم توسيع النطاق في أخذ البصمة الوراثية أو الحمض النووي من عموم المجتمع كان ذلك أجدى وأنفع لكشف الجرائم مستقبلاً.
بندر العمار ..حائل