العبـودية لله طاعة وحب
إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم قولَه فيما أخرجه أبو داود عنه ؛ قال:
" من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " أبو داود ، السنة 4681 وهو حسن الإسناد .
وقد ورد أيضا :
" أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله " أبو داود ، السنة 4599 .
وإن كانت شعب الإيمان تبدأ بأعلاها وهي شهادة أنه لا إله إلا الله وتنتهي بإماطة الأذى عن الطريق فإن الحب في الله من المنازل العليا.
إن أهل الغفلة مع الدنيا في صحبة ، ومع الله في إعراض ..
طول الغفلة أيها الناس أرانا السقم صحة والمرض عافية ، وعقيدة لا إله إلا الله ظنها البعض قولا باللسان ، والبعض ظنها أعمالا لا روح فيها ، وهو ما يحتاج إلى بيان ؛ فإن مدار صلاح العمل قائم على النية ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى " البخاري ، بدء الوحي 1.
ولكن النية هي نتيجة عقيدة صالحة فبعض العباد لهم نية صالحة وأعمال طيبة ولكنهم يحسون بشيء مفقود يبحثون عنه فلا يجدونه ، وسمعت من يقول:
أنا أقوم بالفرائض ولا أقرب المحرمات ولكني ما شعرت يوما بهذا الخشوع العميق الذي يتحدثون عنه وأرى البعض يبكون إذا سمعوا بعض أخبار الصالحين فما تسقط لي دمعة ، ويسمع غيري أخبار اضطهاد المؤمنين في الأرض فتراه كالأسد الهصور ؛ همة ونية واعتقادا والتزاما ، وغيري يسمع بالآية أو الحديث فيه أمر أو نهي أو استحباب فتراه أسرع إليه من إسراع الظامئ إلى الماء الزلال ولا تراني مثله إلا بعد نقاش طويل وجدال عقيم و إفحام ولا أكون مثله! فما الذي ينقصني؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :
" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الأيمان ؛ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ؛ ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ؛ ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " البخاري .
أما الإمام الغزالي فيقول في كتاب المحبة من الإحياء :
اعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فرض ، والطاعة تبع الحب وثمرته ؛ فلا بد أن يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب ، وساق شواهد كثيرة من الآيات والأحاديث ؛ منها الحديث الصحيح:
" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين " مسلم .
إن لا إله إلا الله لا تنبعث من قلب لا عبودية فيه لله ، ولا عبودية حقة من دون حب عميق.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
" العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى وغاية المحبة له "
ويقول في موضع آخر:
" إنما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده ، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا ، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك ، وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك ، وكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله بل لا يكون لله إلا ما جمعَ وصفين: أن يكون لله وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله " .
أما صاحب المدارج الإمام ابن القيم فيقول:
" أصل العبادة محبة الله ؛ بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه " .
إذا فالحب لله من لوازم العبودية وبدون الحب تصبح الأعمال جافة لا روح فيها ، وأصل الحب لغة من الصفاء أو من الحب الذي هو إناء واسع يوضع فيه الشيء فيمتلئ به بحيث لا يسع غيره ، ومثلُ غير ذلك.
والناس يتكلمون عن حب الله وربما لم يعرفوه ؛ حتى أن ثوبان ابن إبراهيم أحد مشاهير الزهاد تكلموا عنده في مسألة المحبة فقال: " أمسكوا عن هذه المسألة! لا تسمعها النفوس فتدعيها " .
وقد ذكر ابن القيم أن المحبة هي ميلك إلى المحبوب بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك في حبه ، وباختصار هي مصاحبة المحبوب على الدوام.
ألا ترى إلى من صاحب الصالحين فما أطاق بعدها أن يفارقهم وهامت روحه معهم فقال:
ومن عجب أني أحن إليهـــم ..... وأسأل عنهم من لقيتُ وهم معـي
وتطلبهم عيني وهم في سـوادها ..... ويشتاقهم قلـبي وهم بين أضـلعي
هذا ثوبان رضي الله عنه كان شديد الحب لله ورسوله أتى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن ؛ فقال له المعلم الهادي صلى الله عليه وسلم :
" يا ثوبان ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي وجع ولا ضر غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ولولا أني أجيء فأنظر إليك لظننت أن نفسي تخرج ؛ ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك لأني عرفت أنك مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا فيشق ذلك علي وأحب أن أكون معك " .
فأنزل تعالى قوله:
" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما " النساء 69-70.
وهذا الحب يدفع بصاحب رسول الله عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه فيشمخ في وجه إغراءات المال والنساء واللآلئ ولا يرهبه التهديد بصلبه ؛ فيؤتى بالقدر العظيمة التي يغلي فيها الزيت ويلقى فيها الأسير فتتفتت عظامه فيبكي ابن حذافة ؛ فيظن هرقل أنه قد جزع من الموت ويسأله: مالك بكيت؟ فيقول: وددت لو أن لي مائة نفس فتموت في سبيل الله مثل تلك الميتة!
إن الموقف ليس موقف شجاعة بشرية ولا حماسة دافقة ؛ الموقف موقف إيمان مازج الروح وخالط الدم ، وحب شديد لله تعالى.
وذلك الأعرابي الذي سألَ إن كان الله تعالى يقبل التوبة ويغفر الذنب فبُشر بذلك ؛ فانصرف ملتاعا واضعا يديه على رأسه يقول: يا رب ... واخجلتاه منك وإن غفرت!! وهل يبعث على ذلك إلا الحياء الشديد مع الحب الدافق الحي.
إن كثيرا من آفات قلوبنا وأمراضنا ترجع إلى خفوت حب الله ورسوله في قلوبنا ، وهو من أوثق عرى الأيمان.
وما بين شعب الأيمان التي تبدأ بلا إله إلا الله وتنتهي بإماطة الأذى عن الطريق ؛ بضع وسبعون شعبة لا بد لها من خوف الله والطمع برحمته ، ولا بد لها من محبة سائقة تعين على مشقة الطريق ومجاهدة النفس ، والبعد عن أهل الغفلة ، والتشمير مع المجدين. إن الحب أمر قلبي ولكن الجوارح كلُّها أسيرة للقلب تسير بسيره وتقف لوقوفه.
والقلب يحتاج إلى الحب الذي يملؤه فتشرق منه الأعمال الصالحة والأخلاق الزكية والنفوس الرضية.
إن الحب يحتاج إلى المعرفة ... وكيف تحب شيئا لا تعرفه ؛ أما سمعتم الحسن البصري يقول: من عرف ربه أحبه.
والمعرفة تحتاج إلى علم ... أما سمعتم قول الله عز وجل: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فاطر 28.
والعلم يحتاج إلى إخلاص ... أما سمعتم نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه " النسائي ، الجهاد 3140.
والإخلاص يحتاج إلى تجرد ... أما رأيتم أبا بكر رضي الله عنه لما طُلِبَ المال للجهاد خرج من كل ماله فسألوه عما أبقى لعياله؟ فقال لهم : أبقيت لهم الله ورسوله! ( الترمذي ).
والتجرد يحتاج إلى عزيمة ... أما تذكرون نبيكم صاحب العزم صلى الله عليه وسلم يدعو: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل ومن الجبن والبخل ومن غلبة الدين وقهر الرجال " البخاري .
والعزيمة تحتاج إلى صدق ومجاهدة ... وقيام ليل واستغفار وحضور مجالس العلم وترويض النفس على مخالفة الهوى وترك أهل الغفلة وصحبة الصالحين ، والتفكر بالموت والبذل لله وعدم الخشية ممن لا يخشاه ، وكلها أعمال إن حرصتم عليها وعودتم عليها جوارحكم انبعث منها إلى قلوبكم أثر ولا بد فتبقون في خير أبدا.
إن محبة الله تعالى تملأ النفس سكينة ورضا وتملأ الحياة نورا وسعادة ، وتملأ المجتمعات البشرية تفاهما وتراحما وتكافلا ..
ومن حرم تلك النعمة لابسه الشقاء ؛ فهو عن الله بعيد.
إني رأيت الدهر ليلا حالكا ..... فجعلت حب الله فيه ضيائي
اللهم أحيي قلبي بحبك
واجعلني لك كما تحب
اللهم اجعلني أحبك بقلبي كله
وأرضيك بجهدي كله
اللهم اجعل حبي كله لك
وسعيي كله في مرضاتك
اللهم إني أسألك حبك،وحب من يحبك ، وحب رسولك وحب المؤمنين , وحب كل عمل يقربنا إلى حبك
وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه اجمعين