المملكة ليست بمعزل عن ما يحدث في العالم والملك أصاب كبد الحقيقة في كيفية التعامل مع الأزمة العالمية
أساسيات الاقتصاد والسياسات المالية الرشيدة كفيلة بتجنيبنا أية تداعيات
قراءة: د. طلال صالح بنان
يأتي تأكيد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، خلال لقائه بوزير الإعلام ورؤساء تحرير الصحف أمس الأول أن العالم يمر بحرب اقتصادية خفية، نابعا من إدراكه، يحفظه الله، بما يحاك في الخفاء والعلن بالنظام المالي العالمي.. الأمر الذي يستوجب أن يكون الجميع عند مستوى المسؤولية.. وأن تكون مصلحة الوطن والمواطنين، فوق كل اعتبار.
الأزمة: حرب خفية
لقد أدرك الملك عبدالله، طبيعة الأزمة العالمية، التي تتفاعل منذ أكثر من شهر تعرض العالم لأزمة مالية لم ينج منها اقتصاد أية دولة، ولكن بنسب متفاوتة، كانت وطأة هذه الأزمة أكثر ما تجلت في اقتصاديات الدول الصناعية الغنية الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تشهد حالة انكماش ظاهرة كمقدمة لأزمة كساد طاحنة، شبيهة بتلك التي عانت منها بداية الثلاثينات من القرن الماضي.
لم يكن هناك من حل إلا أن تتدخل (الدولة)، ممثلة في البنوك المركزية لضخ السيولة بالبنوك التجارية والمؤسسات المالية الاستثمارية، على الأقل من أجل طمأنة المودعين، بسلامة النظام المصرفي، حتى لا يحدث هلع بين المودعين يدفعهم لسحب ودائعهم.. وكذلك العمل على استعادة الثقة في النظام المصرفي، بتمكين المصارف من الإقراض، ولكن في حدود أكثر أمنا هذه المرة، حتى لا ينكشف وضعها المالي، في القيام بأهم وظائف النظام المصرفي، بتمويل النشاط الاقتصادي في المجتمع.
في إطار هذه السياسة للتدخل الحكومي السريع، لإنقاذ النظام المصرفي بصورة عاجلة، تدخلت حكومة الرئيس بوش، عند تفجر أزمة الرهن العقاري، العام الماضي، بدعم النظام المصرفي في الولايات المتحدة، بأكثر من 450 مليار دولار، لمساعدة المصارف التعامل مع أزمة الرهن العقاري، عندما توقف الملايين من الأمريكيين، عن دفع مقدمات وأقساط أعيانهم العقارية.
كان هذا الإجراء -من قبل إدارة الرئيس بوش- بمثابة إعطاء حبة أسبرين للنظام المصرفي الأمريكي، الذي بدأت تظهر فيه آثار "الصداع والترنح المالي"، لكن ما لبثت أن عاود "الصداع" يصيب مرة أخرى النظام المصرفي الأمريكي، حتى كاد أن يصاب بإغماءة، قد لا يفوق منها.
لكن الأزمة المالية، أثبتت أنها ليست أمريكية، حصريا، "الفضل" يعود لسيادة نظام العولمة، الذي تحكمه معاهدة التجارة الدولية، بطريقة أو بأخرى ما يحدث في أكبر اقتصاد عالمي، لابد أن يسمع صداه أرجاء العالم، هذا بالإضافة إلى أن التقدم التكنولوجي.. وتداخل مصالح أطراف حركة رأس المال، عالميا.. وطبيعة حركة رأس المال الحرة والسريعة تجاه فرص الاستثمار السانحة حول العالم، بالإضافة إلى ما يترتب على التزام دول العالم المنظمة لمنظمة التجارة العالمية، وحتى تلك خارجها.. كل تلك متغيرات من شأنها، أن تقود إلى تأثير ما يحدث لأكبر اقتصاد في العالم، لابد أن يمتد أثره، لبقية مجتمعات العالم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
نحن والحرب الخفية
المملكة، ليست خارج ما يحدث في غابة الاقتصاد العالمي التي تفترسها ما يطلق عليه: الصيغة المتوحشة من الرأسمالية. لكن، في حقيقة الأمر، تأثر المملكة بكل ما يحدث على مستوى الاقتصاد العالمي، هذه الأيام بسبب الأزمة المالية العالمية، يغلب عليه المتغير النفسي، بصورة أساسية. ولعل ما حدث في سوق المال السعودية، أقسى ما يمكن أن يصل إليه تأثير الأزمة المالية السلبي على الاقتصاد السعودي، يرجع في الأساس لنفسيات المتداولين، دون أن يكون لذلك أي مبرر اقتصادي وجيه، بل بالعكس، قد لا يلتفت الكثيرون في المملكة لأهم أثر إيجابي للأزمة المالية العالمية، المتمثل في انخفاض معدلات التضخم، نتيجة لتدني أسعار السلع الأساسية، التي كان تتحكم بأسعارها في الماضي أجواء المضاربة في سوق السلع الأساسية العالمية، بالذات سوق النفط العالمية، عكس ما قد يظنه الكثيرون، يعتبر انخفاض سعر النفط، من أهم مؤشرات متانة الاقتصاد السعودي، لأن استعادة التوازن لأسعار النفط من شأنها أن تعطي سعرا عادلا للنفط مقارنة بالأسعار الحقيقية للسلع الأخرى.. كما علينا ألا ننسى أن سعر النفط، في حقيقة الأمر، لم ينخفض، نتيجة لارتفاع سعر الدولار، في لقد عوض ارتفاع سعر الدولار الانخفاض في سعر النفط، مما يعني ارتفاع القوة الشرائية للريال.. و هذا أثر مباشر لسياسة المملكة المالية المحافظة، التي قاومت إغراء إعادة سعر صرف الريال، وقت الضغوط التي كانت على الدولار، في المرحلة الماضية، لتتمكن من كبح جماح التضخم.. ونجحت في ذلك إلى حد كبير.
ومع كل هذه القدرة المرنة للاقتصاد السعودي في التعامل مع الأزمة المالية العالمية، وفق سياسة الحرية الاقتصادية المعلنة للمملكة، إلا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد السلبي من التعامل مع الأزمة المالية العالمية، بل أقدمت المملكة على اتخاذ إجراءات مالية إيجابية لدعم السوق المالية في المملكة.. وتجاوز أية تأثيرات سلبية على نفسية المستثمرين والعامة، مما يتفاعل في الخارج.
لقد اتخذت مؤسسة النقد السعودي إجراءات من شأنها توفير السيولة لدى المصارف المحلية، تراوحت بين الإقدام على ضخ سيولة مباشرة تجاوزت "3 مليارات دولار" 11 مليار ريال، إلى دعم المصارف الوطنية، بطريقة غير مباشرة، تهدف إلى ضمان توفر سيولة، بصورة دائمة في تلك المصارف، إما عن طريق تخفيض حجم الاحتياطي النظامي الذي تفرضه "ساما" على موجودات البنوك لديها، وكذا خفض تكلفة تمويل البنوك بما تقترضه من "ساما"، وفقا لحاجتها.. الأهم، هنا: ضمان الحكومة السعودية للودائع الأفراد والشركات وكافة الجهات الشخصية والاعتبارية لودائعها، بنسبة 100%، يكفي أن نقارن هذا بما أقدمت عليه الحكومة الأمريكية لمواجهة الأزمة المالية، من رفع ضمان الودائع في المصارف الأمريكية، من 100 ألف دولار إلى 250 ألف دولار، فقط، كما جاء في خطة الإنقاذ التي أعلنها البيت الأبيض ووافق عليها الكونجرس، مؤخرا.
لقد أصاب خادم الحرمين الشريفين كبد الحقيقية، عندما كشف أن هناك حربا غير تقليدية طاحنة صامتة تسود العالم، ومحذرا الجميع من مغبة التعرض لها، معظم أسس الاقتصاد السعودي وأساسياته الإنتاجية والمالية سليمة، وتتمتع بميزة تنافسية عالية، مقارنة لاقتصاديات أضخم وأكثر غنى وتنوعا في العالم، إلا أنه يبقى هذا المتغير النفسي من أهم ما يجب التعامل معه، بسياسات أكثر تحديدا ووضوحا، ليس هناك ما يمنع أن تقدم السلطات المالية الرسمية في المملكة ممثلة في مؤسسة النقد العربي السعودي، بخطة دعم محددة المعالم تتوفر بها أرقاما واضحة ودقيقة وسياسات محكمة وصارمة، دون انتظار حاجة البنوك والمؤسسات المالية في المملكة، لتوفر السيولة.. بالإضافة إلى إعادة النظر في سلوكيات مديري المصارف المحلية ومجالس إداراتها، في طريقة تعاملهم مع موجودات البنوك النقدية والعينية، كتلك التي جاءت في خطة الإنقاذ الأمريكية، على سبيل المثال.