يقول أحد الفلاسفة : ( نقرأ الشعر لننتزع الحكمة ونستشهد بها ) .
فالحكمة ارتبطت بالشعر ارتباطا وثيقا وقصائد الحكمة أو حتى الأبيات التي تطرقت للحكمة تعتبر الأشهر بين القصائد والأبيات ، وتخلد على مر السنين وتحفظ في الصدور قبل أن تحفظ في السطور والأمثلة في شعرنا العربي على هذا كثر سواء في الشعر الفصيح أو النبطي .
وحينما نقرأ أو نستمع لقصائد شاعرنا الراحل عبد الله المسعودي رحمه الله ومحاوراته نجدها مليئة بأبيات الحكمة ، بل أنه رحمه الله قد نظم العديد من القصائد لهذا الغرض فقط .
وفي المحاورات ساق شاعرنا الراحل الحكمة دون أن يخل بالمعنى بل كانت تصب أبيات الحكمة في سياق المعنى وتقويه بأسلوب لم يتقنه إلا قلة من الشعراء نكاد نحصيهم على أصابع اليد الواحدة .
يقول الشاعر عبد الله المسعودي في أحدى محاوراته مع الشاعر مطلق الثبيتي رحمهما الله :
لو عرفنا الدوا ما مات ميت بعله......... كم عود عوج فيه الورق والثماري
يمثل كل شطر من هذا البيت حكمة على حده ففي الشطر الأول يقول لنا أن الأنسان لا يمكن أن يبلغ النهاية من المعرفة ، مستخدما أسلوب ( الشرط والجواب ) الذي أعطى المعنى القوة والتماسك ، وفي الشطر الثاني يدعنا نستنتج أن ليس كل من ساء مظهره ساء جوهره حينما يستشهد لنا بأن الكثير من أغصان الشجر المعوّجة نجدها مورقة مثمرة ، والجميل هنا هذه العلاقة التي قامت بين القائل ( الشاعر ) والمتلقي ( نحن ) التي نتج عنها في الأخير بناء الحكمة في هذا الشطر فعرضه للشاهد دعانا لاستنتاج المستشهد عليه .
ويقول أيضا مع الشاعر محمد الجبرتي رحمه الله :
إذا صدر الفتى ما يكتم أسراره على بلواه....... متى ما أدري يبا يلقى الصدور اللي يثق فيها
عرض الشاعر الفكرة في البيت الأول وهو يتحدث عن الإنسان الذي لا يستطيع أن يحافظ على سره ويكتمه عن الناس مفتتحا البيت بـ (إذا) الشرطية التي تنتظر الجواب ليمتلك الأذهان ويضمن تعطشها لسماع جواب الشطر فيأتي بالجواب في الشطر الثاني من البيت في أسلوب الاستفهام الدال على التعجب حينما يقول ( متى؟.... ما أدري! ) ولست بمخطئ إن قلت أن البيت تضمن أيضا للاستهزاء ممن يحاول أن يجد له إنسان أخر يكتم له سره لنستخرج من هذا البيت : أنه إذا أنت لم تستطع كتم سرك فكيف بغيرك أن يكتمه .
فجاء البيت ككتلة واحدة لا يستطيع القارئ أن يستغني بجزء عن الأخر ، ثم أنظر للأسلوب البلاغي في هذا البيت الذي أعطى للمعنى قوة لا تدع مجالا للمستمع أو القارئ للرفض أو الاعتراض على قول الشاعر فبعد أن عرض رأيه أجبرنا على أتباعه من دون أن يدع لنا مجالا لغير هذا .
والأمثلة في محاورات شاعرنا رحمه الله كثيرة جدا ولا مجال لحصرها .
ونحن نعلم أن شعر المحاورة يعتمد على الرموز التي تخفي ورائها المعنى الدائر بين الشاعرين فإذا استطاع المتلقي فك هذه الرموز وفهم المعنى الذي يرمي إليه الشاعرين وجد كيف أن شاعرنا الراحل استطاع توظيف الحكمة في المحاورة دون الإخلال بالمعنى وإذا لم يستطع فقد كسب بيتا من الحكمة يستشهد به في حياته ، وهذا التمكن الذي لدى شاعرنا رحمه الله لا نجد عند الكثير من الشعراء وهذا مما جعل الشعر عبد الله المسعودي من أميز شعراء المحاورة .
أما بالنسبة لشعر النظم بأنواعه فشاعرنا رحمه الله استطاع بقوة شاعريته ورجاحة عقله أن يطرز العديد من قصائده بأبيات من الحكمة ونظم العديد من القصائد للحكمة فقط وكانت شموعا مضيئة في مسيرة شاعرنا الراحل رحمه الله ، وانظروا إلى هذه الأبيات التي جمعتها من قصائد عدة لشاعرنا الراحل ..........
يقول رحمه الله :
وإن طال عمر المرء وقته يعلّمه ....... وفي كل يوم يشوف شي غريب
ويقول :
الصدق مثل الريّس من الدروبي ....... اللي ما تغني عنه كل المجانيب
ويقول :
واللي يمر المراغه ما سلم ثوبه من الطين .... ما أحد محصل من التنباك مسك وزعفراني
ويقول :
كم واحد يلبس ثياب الرجاجيل ...... وإذا فتشت أقصاه ما هو برجال
ويقول :
ولا فاد كثر القول من غير معقول ..... ولا يشبع الجيعان كثر الهقاوي
ويقول :
لو جتك زله من صديق اسمح ..... ما في البلد لحمٍ بغير عظام
وغير هذا الكثير مما وجدته في شعره والأكثر مما فقد من ذاكرة الرواة ولم يصل إلينا لكن أتمنى أن ما قدمته يستحق القراءة وأنه يشير ولو بشكل بسيط إلى جانب من جوانب الإبداع لدى شاعرنا الراحل رحمه الله .
أحمد مصيليح البلوي