الزائر الأخير !..
الحمد لله الذي خلق آدم من تراب، والصلاة والسلام على من أنار الله به البصائر والألباب، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع هداه إلى يوم الموعد والمآب... و بعد:
أخي المسلم :
هل تعلم من هو الزائر الأخير؟ وهل تعلم ماذا يريد من زيارتك ولقائك؟ وأي شيء يطلب منك؟
إنه لم يأت طمعاً في شيء من مالك.. أو لمشاركتك طعامك وشرابك.. أو للاستعانة بك على قضاء دين.. أو شفاعة لدى أحد.. أو تمرير معاملة عجز عنها.
لقد جاء هذا الزائر إليك في مهمة محدودة وقضية معينة.. لا تستطيع أنت ولا أهلك وعشيرتك، بل ولا أهل الأرض جميعاً أن يردوه دون إنجازها وتحقيقها.
ثم إنك وإن سكنت القصور العالية، وتحصنت بالحصون المنيعة والبروج المشيدة.. وتمتعت بالحراس والحجاب، لا تستطيع منعه من الدخول إليك، والاجتماع بك، وتصفية حسابه معك!!
إنه لا يحتاج - كي يدخل عليك - إلى أبواب أو استئذان ولا إلى أخذ موعد مسبق قبل المجيء والإتيان، بل يأتي إليك في أي وقت وعلى أي حال؛ حال شغلك أو فراغك.. صحتك أو مرضك.. غناك أو فقرك.. سفرك أو إقامتك.
وهذا الزائر ليس له قلب يرق بحيث تؤثر فيه كلماتك وبكاؤك، أو ربما صراخك وتوسلاتك، وليس في مقدوره أن يمهلك مهلة تراجع فيها حساباتك، وتنظر في أمرك!!
وهو كذلك لا يقبل هدية ولا رشوة، لأن أموال الدنيا كلها لا تساوي عنده شيئاً، ولا ترده عما جاء من أجله.
إنه يريدك أنت.. لا شيء غيرك.. يريدك كلك لا بعضك.. يريد إفناءك والقضاء عليك.. يريد مصرعك وقبض روحك.. وإهلاك نفسك.. وإماتة بدنك.
إنه ملك موت!!
قال تعالى:
" قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ " السجدة:11.
" حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ " الأنعام:61.
قطار العمر
ألا تعلم أخي أن زيارة ملك الموت شيء محتوم، وقدر سابق معلوم، مهما طال بك العمر أو قصر؟
ألا تعلم أننا جميعاً مسافرون في هذه الدار.. ويوشك المسافر أن يصل إلى غايته ويحط رحله؟
ألا تعلم أن دورة الحياة أوشكت على التوقف.. وأن قطار العمر قد قرب من مرحلته الأخيرة؟
سمع بعض الصالحين بكاء على ميت فقال:
" يا عجباً من قوم مسافرين يبكون على مسافر قد بلغ منزله!! " .
قال ابن مسعود رضي رضي الله عنه:
" إنكم في ممر من الليل والنهار،في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة , فمن يزرع خير فيوشك أن يحصدرغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع ما زرع " .
أعيذك أخي أن تكون من الذين: " إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ "محمد:27 .
أو من: " الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ , فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ " النحل:29،28.
أما تعلم أن بزيارة ملك الموت لك ينتهي عمرك، وينقطع عملك، وتطوى صحائف أعمالك؟
أما تعلم أنك لا تستطيع بعد زيارته اكتساب حسنة واحدة..
لا تستطيع صلاة ركعتين.. لا تستطيع قراءة آية واحدة من كتاب الله.. لا تستطيع التسبيح أو التحميد أو التهليل أو التكبير أو الاستغفار ولو مرة واحدة.. لا تستطيع صيام يوم أو التصدق بشيء ولو كان يسيرا.. لا تستطيع الحج أو الاعتمار.. ولا بذل معروف بسيط للقريب أو الجار.. فقد مضى زمن العمل، وبقي الحساب والمجازاة على الإحسان والزلل
" حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ , لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ " المؤمنون:100،99.
فيا أخي أين استعدادك للقاء ملك الموت؟..
أين استعدادك لما بعده من أهوال.. في القبر.. وعند السؤال.. وعند الحشر.. والنشر.. والحساب.. والميزان.. وعند تطاير الصحف.. والمرور على الصراط.. والوقوف بين يدي الجبار جل وعلا؟!.
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة " متفق عليه.
إلى كم ذا التراخي والتمادي .... وحادي الموت بالأرواخ حادي
فلو كنا جمادا لا تعظنا .... ولكنا أشد من الجماد
تنادينا المنية كل وقت .... وما نصغي إلى قول المنادى
وأنفاس النفوس إلى انتقاص .... ولكن الذنوب إلى ازدياد
إذا ما الزرع قارنه اصفرار .... فلس دواؤه غير الحصاد
اعلم أخي الفاضل أن لك موضعين تندم عندهما حيث لا ينفع الندم:
الأول: عند الاحتضار؛حيث تريد مهلة من الزمن لتصلح ما أفسدت، وتتدارك ما ضيعت، ولكن هيهات.
الثاني: عند الحساب؛حيث تُوفى كل نفس ما كسبت وهم لايظلمون.
لكن كثيراً من الناس مع الأسف الشديد يضيع عمره في غير ما خلق له، ثم إذا فاجأه الموت صرخ " رَبِّ ارْجِعُونِ " المؤمنون:99 , ولماذا ترجع وتعود " لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ " المؤمنون:100 .
إن الأيام تسير بنا وإن لم نسر، والأنفاس مراحل تقربنا إلى القبر الذي هو أول منازل الآخرة وبعد ذلك أهوال وأهوال.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
" ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه؛ نقص فيه أجلي، و لم يزد فيه عملي ".
وقال سعيد بن جبير:
" إن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة "
وقال الحسن رحمه الله:
" ما مرّ يوم على ابن آدم إلا قال له: ابن آدم، إني يوم جديد، و على عملك شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدّم ما شئت تجده بين يديك وأخّر ما شئت فلن يعود أبداُ إليك ".
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي:
" هذه غنيمة باردة: أصلح ما بقي من عمرك؛ يغفر لك ما مضى ".
كيف ونحن نعلم أن وراء الموت القبر وظلمته، والصراط ودقته والحساب وشدته، أهوال وأهوال لا يعلم عظمها إلا بالله.
للموت فاعمل بجد أيها الرجل ..... واعلم بأنك من دنياك مرتحل
إلى متى أنت في لهو وفي لعب ..... تمسي وتصبح في اللذات مشتغل
ولكن ما أقل من اتعظ وما أنذر من اجتهد، إن كان من قصر أمله، وجعل الموت أمام ناظريه عمل بلا شك للآخرة واستفاد من كل لحظة من لحظات عمره في طاعة ربه وتحسر على كل وقت أضاعه بدون عمل صالح يقربه إلى الله، وهو لما قدم من عمل فرح مسرور بالانتقال إلى الدار الآخرة وهذا هو المغبوط حقاً.
قال صلى الله عليه وسلم :
" أكثروا من ذكر هاذم اللذات "
وقال لقمان لابنه:
" يا بني أمرٌ لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك "
فهل تذكرت لحظة الفراق عندما تلقي آخر النظرات على هذه الدنيا وتستقبل الآخرة بما فيها من الأهوال والصعاب ..فاعمل من الآن عملاً ينجيك بإذن الله مما أمامك من أهوال ما دام في الوقت مهلة وما دمت تستطيع ذلك لتخرج من هذه الدنيا مرتاحاً وفرحاً مسروراً بلقاء ربك، وبما أعده لك من النعيم المقيم.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً ..... والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا ..... في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
يقول ابن القيم رحمه الله:
" إن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم بل أسوأ حالاً منه، فإن العاقل يعلم وعد الله ووعيده.. لكن يحجبه عن حقيقة الإدراك، ويقعده عن الاستدراك سنة القلب وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده.. وانغمس في غمار الشهوات، واستولت عليه العادات.. ومخالطة أهل البطالات.. ورضي بالتشبه بأهل إضاعة الأوقات فهو في رقاده مع النائمين.. فمتى انكشف عن قلبه سنة الغفلة بِزَجرَة من زواجر الحق في قلبه،استجاب فيها لواعظ الله في قلب عبده المؤمن.. ورأى سرعة انقضاء الدنيا.. فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلاً: يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فيِ جَنبِ اللهِ، فاستقبل بقية عمره مستدركاً بها ما فات، مُحيياً بها ما أمات، مستقبلاً بها ماتقدم له من العثرات ".
فتفكر أخي في رحيلك واجعل همك كل همك في معادك.. تذكر أن الموت يأتي على غرة.. وأعدّ لفجأته حساباً !
تفكر في لحظة احتضارك.. بم قد يختم لك.. وكيف يكون وقتها حالك !
حاسب نفسك في خلوتك، وتفكر في سرعة انقراض مدتك، واعمل بجد واجتهاد في زمان فراغك لوقت حاجتك وشدتك، وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك، فأين الذي جمعته من الأموال؟ أأنقذك من البلى والأهوال؟ كلا بل تتركه إلى من لا يحمدك، وتقدم بأوزار على من لا يعذرك.
فلا تكن أخي ممن قيل فيه:
ومنتظرللموت في كل لحظة .... يشيد ويبني دائماً ويحصن
له حين تبلوه حقيقة موقن .... وأعماله أعمال من ليس يوقن
عيان كإنكار وكالجهل علمه .... بمذهبه في كل ما يتيقن
وإن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين.
وكم شخص أصر على صغيرة فألفها وهانت عليه ولم يفكر يوما في عظمة من عصاه فكانت سببا في سوء خاتمته.
فينبغي للمؤمن أن يكون يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم .
والسعيد من اتخذ لهذا السفر زادا يبلغه إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار .
اللهم لا تشغلني برزقك عن قربك ولا بلهو عن ذكرك ولا بحاجة من حوائج الدنيا عن عبادتك وشكرك
اللهم لا تأخذنا منك إلا إليك ولا تشغلنا عنك إلا بك واجعل أعمالنا وأقوالنا وحياتنا كلها خالصة لوجهك الكريم
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا واجعل اللهم سعينا في رضاك وأحسن خاتمتنا
وأسأل الله لي ولكِ ولكل المسلمين حسن الخاتمة وأن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة لا حفرة من حفر النيران ويجعل الجنة دارنا وقرارنا اللهم آمين