يعتبر الجواب المسكت فناً من الفنون إن الرجل قد يقول لمن يسيء إليه : أخرس فيكون هذا جوابا مسكتا حسب اللغة الأولية ولكنه يختلف عن جواب برنارد شو حين قال له كاتب مغرور أنا أفضل منك فإنك تكتب بحثاً عن المال وأنا أكتب بحثاً عن الشرف فقال له برنارد شو على الفور: صدقت كلَّ منا يبحث عمّا ينقصه !....
فهذا الجواب فن لأن فيه قلباً لمراد المتكلم ورداً لهجومه عليه بطريقة ذكية ومقنعة وليست بكلمات مثل أخرس ، اصمت، اغرب عن وجهي فهذه أجوبة عاجزة وتلك أجوبة فاعلة وهكذا الفن دائماً فلو صرخ الإنسان :أنني أحب ...أقسم الله العظيم أنني أحب... لم يدخل كلامه في باب الفن بعكس الشاعر الذي قال:
وإني لتعروني لذكراك هزّةٌ
كما انتفض العصفور بلّلُه القطر
فشعره يقنعنا أنه محب أكثر من قسم الرجل الآخر لأنه فن يخاطب القلب والوجدان .
والجواب المسكت أكثر ما ينطلق رصاصة على الرجل المخطئ الذي لايقدر الرجال فيخطئ عليهم فيأتيه الجواب الذي يلقمه حجراً كما تقول العرب وإذا كان الشاعر يقول:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخير من إجابته السكوتُ
وقد يكون الجواب المسكت جيداً لأنه من الحكمة ولكنها حكمة لا تأتي من التأمل البارد تخرج من المواقف الذي يحرج الرجال فقد قال معاوية لعدي بن حاتم يهدده :
أما أنه قد بقيت من دم عثمان قطرة ولابّد أن أتبعها..........
فقال عدي :
لا أبالك ! شِم السيف،فإن سلّ السيف يسُل السيف ..........
فما زاد معاوية – بدهائه المعهود – أن التفت إلى كاتبه فقال له:
أجعلها في كتابك فإنها لحكمة
وإذا كان الجواب المسكت قد أفلح عند حاكم داهية واسع الحلم كمعاوية فإنه قد يفلح عند حاكم عنيد جبار يقتل الإنسان كأنه يقتل ذباب كالحجاج بن يوسف الذي قبض على رجل قد ارتكب أخاه جرما فقال له:
والله إن لم تأتني بأخيك أو جواب من أمير المؤمنين لأقتلنك.......... فقال الرجل على الفور : فإني آتيك بجواب رب أمير المؤمنين قال الله تعالى ( ولاتزرُ وازرة وزرَ أخرى) فوجم الحجاج وأطلق سبيله
على أنّ الأجوبة المسكتة كثيراً ما أسرعت بآجال الخوارج أمام الحجاج
إذ أن هؤلاء الخوارج رجالاً ونساء شجاعة فائقة وأجوبة حادة لا تقل عن شجاعتهم وخاصة أنها تطلق في لحظات الإعدام ...........
أُوتي الحجاج بامرأة من الخوارج فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه فقيل لها : الأمير يكلمك وأنتِ لا تنظرين إليه ؟! فقالت :أني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه فأمر بها فقتلت !!!!!
وأوتي الحجاج أيضا بامرأة فقال لأصحابه : ما تقولون فيها ؟؟
قالوا: عاجلها القتل ياأمير
فقالت: لقد كان وزراء صاحبك خير من وزرائك يا حجاج قال ومن صاحبي ؟؟؟
قالت : فرعون!... استشارهم في موسى فقالوا :أرجه وأخاه ....فأمر الحجاج بها فقتلت
لقد كان الحجاج متردداً في قتلها فجاء جوابها فأجهز عليها ولا عجب بعد هذا أن يمتلئ تراثنا العربي بأهمية الحفاظ على اللسان ولزوم طول الصمت فلم يكن بين قتل الإنسان وبراءته سوى كلمة .
والذي يسخر بالرجال ما أجمل أن يطلق عليه جواباً مُسكتاً يرد كيده في نحره .
كما روي أن شيخاً جلس بين شابين فقالا يسخران منه :
يا شيخ أنت أحمق أم جاهل ؟؟ فقال : أنا بينهما .
وسأل ثقيل بشار ابن برد قائلاً : ما أعمى الله رجلاً إلا عوضه فبماذا عوضك ؟؟
فقال بشار: أنني لا أرى أمثالك !!
وجلس مجموعة من الثقلاء عند الأعمش فأطالوا (والأعمش أكره خلق الله للثقلاء فقال أحدهم : هل أطردهم عنك ؟؟
فقال : نعم أطردهم و أنطرد معهم .
وقالت نجمة انجليزية للأديب الفرنسي جانسون:
إنه أمر مزعج فإني لا أتمكن من إبقاء أظافري نظيفة في باريس؟؟
فقال على الفور:
لأنك تحكين نفسك كثيراً
وورد في محاضرات الأدباء أن رجلاً قال لامرأته : ما خلق أحب إليّ منك
فقالت: ولا أبغض إليّ منك !! فقال : الحمد لله الذي أولاني ما أحب وابتلاك بما تكرهين !!!
وقال تزوج أعمى امرأة فقالت : لو رأيت بياضي وحسني لعجبت فقال : لو كنت كما تقولين ما تركك المبصرون لي!!
وما أجمل الجواب المسكت إذا كان ردّا على مغرور وإطفاء لزبد غروره .
قيل وثب عبدالرحمن بن يزيد على فرسه بقوة فأعجبته نفسه فقال لعلي بن هشام – وكان غلاماً يرمقه وهو يثب : هل يجيد أبوك أن يثب على الفرس كما أفعل ؟؟؟
فقال: لأبي مائة عبد كلهم يجيدون ما فعلت .
وقال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن مسلم وكان من رجال الحجاج :أتظن الحجاج استقر في نار جهنم أم هو يهوي فيها قال : يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك فضعه حيث شئت !!!!
وقد يأتي الجواب المسكت قطعاً لحجة أو نسفاً لمشكلة .
قال رجل لبرنارد شو : أليس الطباخ أنفع للأمة من الشاعر أو الأديب؟؟
فقال: الكلاب تعتقد ذلك
وقال الحجاج لرجل من الخوارج : والله أني لأبغضك
فقال : أدخل الله أشدنا بغضا لصاحبه الجنة!!!
وروى ابن الجوزي أن امرأة جملية قالت لزوجها القبيح وهي حامل : الويل إن جاء ولدي يشبهك فقال : بل الويل لك أنتِ إن جاء يشبه غيري .
وقال رجل للأحنف – وقد رآه قصيراً قبيحا – بما سُدت قومك!!
فقال بتركي من أمرك مالا يعنيني كما عناك من أمري مالا يعنيك .
وشكى أهل بلدة واليهم الظالم إلى المنصور فقال المنصور : بل هو من أعدل الولاة فقال بعضهم : إذن يا أمير المؤمنين ولّه على بلدة أخرى لتستفيد من عدله......... فتبسم المنصور وعزله .
كما ورد أن خالد بن صفوان بلغه تعيين بلال بن بردة والياً على البصرة قال :
سحابة صيف عن قليل تنقشع !!
فبلغ ذلك بلالاً فاستدعاه وقال : أما والله لا تقشع حتى يصيبك شؤبوب برد فضربه مائة سوط !!!!
_ منقول _