احساس شاعر
10/05/08, (05:12 PM)
الربابة: آلة الغناء العربي التي تموت
صوت عربي معبر صحبت الشعراء والسُّمار وتكلمت بلغتهم.. وكانت أساسا لآلة الكمان الغربية
عرف العربي الربابة منذ القدم فقد كانت هذه الآلة الوترية البدائية الخالية من التعقيد رفيقة ابن الصحراء في حله وترحاله، فقد حملها معه وهو يقطع تلك الفيافي والمغازات على امتداد الصحراء على اقدامه أو على راحلته وبين إبله وأغنامه، وفي محطات استراحته تحت ظل شجرة أو على كثيب رملي أو على صخرة ظللها جبل شاهق، يبدأ بمعاشرتها ليتمازج صوت حنجرته مع وتر الربابة وينشأ بينهما إيقاع من نوع خاص مما يمكن القول أن الربابة صوت عربي معبر صحبت الشعراء والسُّمار، وتكلمت بلغتهم وأمدتهم بصوت إضافي وبإيقاع تحفيزي. وفي أول دراسة من نوعها عن الاثنولوجيا لربابة عرب الجزيرة يضع الصحفي والشاعر الشعبي السعودي راشد بن محمد بن جعيثن القراء أمام عمل يذكرهم بصوت نسوه وبوجه أضاعوه وبتاريخ تغافلوا عنه كما عبر عن ذلك مقدم الدراسة الناقد الدكتور عبد الله الغذامي. الزميل بدر الخريف من مكتب "الشرق الأوسط" بالرياض رصد ابرز ما جاء في هذه الدراسة عن الربابة وتاريخها ومكوناتها وكيفية صنعها وأوقات عزفها وابرز مؤديها فكانت هذه الحصيلة. بداية يشدد الدكتور عبد الله الغذامي الناقد والأديب السعودي المعروف على القول بان العلاقة بين الربابة والشعر هي علاقة عضوية، والأمر لا يقف عند مجرد المصاحبة الحسية، ولكن القضية تتسع لتشمل وجود التمثيل الثقافي للإنسان معتبراً أن الربابة صوت عربي معبر، صحبت الشعراء والسمار وتكلمت بلغتهم وأمدتهم بصوت إضافي وبإيقاع تحفيزي. ويقول الغذامي في مقدمته لأول دراسة من نوعها عن الاثنولوجيا لربابة عرب الجزيرة لمؤلفه الصحفي والشاعر السعودي راشد بن محمد بن جعيثن ان المؤلف في كتابه هذا يتصدى لقضية مهمة، وهي مهمة لا بمعنى أنها مفيدة وضرورية إذ أن كل معرفة علمية مهما كانت هي بالضرورة مهمة، إذا حصرنا الأهمية على الإفادة والضرورة، غير أني هنا اصف القضية بالأهمية بمعنى ينطوي على اشكال ثقافي، إضافة إلى ما فيه من بعد أكاديمي ومعرفي. هذا الإشكال الذي المح إليه، هو ارتكاب أمة من الأمم عمليات مسح لذاكرتها ولصوتها، مسح بمعنى الإلغاء أو التغييب. ويضيف الغذامي ونحن لو تلفتنا حولنا، وتبصر الواحد منا حاله، ما بين طفولته وما بين واقعه الفاعل الآن، لرأينا مقدار ما نسيناه ـ أو فقدناه ـ من صوت ومخيال كان لنا في الطفولة ثم غاب عن حياتنا الآن. فالألعاب والأحاديث والأهازيج التي كانت تطبع حياتنا لم تعد حاضرة في واقعنا الآن حتى لقد بلغ الأمر أن صرنا نعزلها عن مجال ثقافتنا ونصفها بالشعبية أو القديمة أو أهازيج أيام زمان وبذا فإننا نطويها ونطردها من عالمنا الحسي ومن ذاكرتنا الحية. هذا فعل طمس ومسح متعمد يحدث منا بقصد وتخطيط، هو فعل مضاد: ضد الذاكرة وضد الصوت وبالتالي ضد الحياة وضد التاريخ. إن إلغاء الصوت سيكون إلغاء للتاريخ وقتلاً للذاكرة، والمرء الذي بلا تاريخ سوف يصبح مسخاً لأنه بلا صوت وبلا هوية. كم نحن عدائيون وإرهابيون ضد أنفسنا حينما نلغي مخيالنا وصوتنا الذي توالدت أيامنا الأولى عليه. ان هذا يشبه حالة رجل قطع حباله الصوتية فصار ابكم وقد خلقه الله فصيحاً. ان فصاحتنا هي التعبير الحر والصادق عن ذواتنا وعن حالنا، ولسوف نفقد فصاحتنا، ان نحن فقدنا صوتنا الذي انكتبت به وفيه حياتنا في النشأة والمنطلق.
* صوت معبر
* وهنا تأتي الربابة بوصفها صوتاً معبراً، وبوصفها (لغة) كاملة التمثيل والتعبير. ويشير الناقد الغذامي إلى انه إذا كان للصوت سلطانه في القوة والتأثير وله مداه في التمدد والتماهي فان الربابة في ثقافتنا تأتي بوصفها صوتاً مصاحباً لصوت اللغة، وتقوم الربابة على وترين، مثلما يقوم الصوت البشري على حبلين صوتيين. واحد الأوتار ثابت في الربابة، والثاني متحرك مع يد الشاعر، وبدا يتضافر الصوت مع حركة اليد، فتتصاعد لغة الجسد مع اللغة الطبيعية في تحفيز المنشد وتنشيط التعبير. تتكلم الربابة وتتحرك مع المنشد فتصبح جزءاً عضوياً في عملية الفعل الإبداعي، وهذا ما جعل أهلنا في البادية يعاشرون الربابة ويتآخون معاً في وحدة كاملة في البراري والظلمات حيث تتوالد الأصوات حرة طليقة وتتدفق حياة البدوي عبر حنجرته في شعر سيال، وعبر الربابة في صوت منساب، ويتمازج الصوتان من الحنجرة ومن الوتر وينشأ إيقاع اللغة مع إيقاع البيئة بنجومها في وجه السماء مع حركة النسائم على وجه الأرض وتتواثب حبات الرمل طرية تتراقص على ايقاعات اللغة المتقاطرة شعراً ونغماً. لقد أحس الاعراب بقيمة الربابة وأدركوا صوتها وجاذبيته، فاتخذوها رفيقاً وأنها لرفيق كريم تمنح نفسها لرفيقها فتعطيه الصوت والإيقاع وتحفز حسه الإبداعي إلى أن يتفجر الشعر وينساب النص مثل هطول المطر. لذا فان العلاقة بين الربابة والشعر هي علاقة عضوية والأمر لا يقف عند مجرد المصاحبة الحسية، ولكن القضية تتسع لتشمل وجوه التمثيل الثقافي للإنسان. والربابة عنصر من عناصر هذا التمثيل للإنسان العربي ولقد مر زمن كان العربي (البدوي) لا يسير من دون ربابته، وان كان الجاحظ يجعل العصا شارة على العربي، فإننا نرى أن الربابة ايضاً تمثل شارة أخرى، تجاري العصا وتماثلها، وان فقداننا لعادة حمل العصا وعادة اصطحاب الربابة لهو صورة من صور فقداننا لصوتنا العربي التمثيلي. ويضيف الدكتور الغذامي إننا نفقد ذاتنا العربية بتدريج بطئ، ولكنه فقدان فادح لأننا لا نعوض المفقود ولا نبتكر صوتاً بديلاً عن الصوت المفقود، وبذا فإننا مجتمع من الخرس والبكم، مجتمع بلا صوت. ولو نظرنا حولنا وتصفحنا أيام حياتنا لوجدناها خلواً من أي احتفالية صوتية، ولولا مناسبة يتيمة تمر علينا سنوياً في الجنادرية لقلت إننا قد فقدنا حسنا الصوتي ايضاً ولم نعد نحس أو نشعر بأصواتنا وكأننا شخوص في أفلام صامتة، أو كأنما قد أصبحنا مثل جماعات النمل، نتحرك بصمت مطبق، ولا نعرف عن الشوارع والطرقات إلا أنها معابر نعبر منها مسرعين لنصل إلى بيوت جعلناها مخابئ نقبع فيها، وجفت الحياة العامة عندنا ومات الشارع في مجتمعنا وماتت الميادين والأسواق حتى لتبدو حياتنا للناظر إليها وكأنها حياة عابري سبيل، أقوام لا تربطهم بالمكان رابطة ولا يتصلون ببعض بأي صلة. هذا هو ممات الصوت أو موت المكان، واستعير هذا التعبير من الدكتور احمد الضبيب الذي أطلق هذه العبارة في معرض حديث أخر مختلف، ولكن التعبير يصدق على حالنا هذه أيضاً. ان الربابة صوت عربي معبر صحبت الشعراء والسمار وتكلمت بلغتهم وأمدتهم بصوت إضافي وبإيقاع تحفيزي، وجاء كتاب بن جعيثن ليذكر قراءه بصوت نسوه، وبوجه أضاعوه، وبتاريخ تغافلوا عنه.
* الآلة البدائية أرجعت شاعرة أميركية إلى عروبتها
* وحينما جاءت الشاعرة الماز أبي نادر إلى لبنان، وجدت نفسها أمام ذلك الصوت فثارت فيها رياح القصيدة، وكتبت نصاً بعنوان «الموسيقى العربية» وكأنها تقصد أن تقول: «الصوت العربي» فهي سمعت الربابة لأول مرة في حياتها مما سبب لدمائها العربية القديمة أن تتحرك وتنبض شعراً وقصيداً، وظهرت الدماء العربية من تحت اللسان المهاجر، وانكشف الصوت العربي المتواري تحت الجنسية الاميركية، ولم تعد ألماز شاعرة اميركية من اصل عربي، ولكنها صارت أذناً عربية تتفاعل مع صوت عربي، أدركت فيه جذورها القديمة وثقافتها المطمورة وكانت الربابة لألماز هي الصوت المنبه الذي أيقظها من هجرة الروح، وأشعل فيها عروبتها، فراحت تخاطب هذا الصوت بعقيدتها تلك.
* الكمنجة من الربابة
* ويشير راشد بن جعيثن في أول دراسة من نوعها عن الاثنولوجيا لربابة عرب الجزيرة انه في خضم اهتمام الدول الأوروبية بعلم الأطالس الفولكلورية لم تدخل الربابة عالمها الذي بدأ الاهتمام به في ألمانيا على يد العالم الألماني فيلهلم مانهارت في أول محاولة لجمع التراث الشعبي الألماني من اجل أن تتضح الصورة أكثر لعلم فن هذه الآلة الوترية البدائية، التي لم نقف على تاريخ يحدد اختراعها، هذه الآلة التي فتحت آفاقاً أمام مخترعي الآلات الوترية، الآلة التي هذبت عنها الكمنجة المقتبسة من آلة الرباب بعد انتقالها إلى أسبانيا كحضارة فنية تبعت الفتح الإسلامي بالأندلس وقد هذب عنها الغربيون أسرة لأربع آلات وترية هي: الكمان، والفيولا، والشيلو، والكونتر باص. وقد صنعوها بمقاييس هندسية لتصبح المنهج الموسيقي الجديد لعزف السمفونيات، والكونشرتو وذلك بعدما عرف الايطاليون الرباب وهذبها الفنان الإيطالي كاسباري بيرتولوي المولود في بلدة سالو عام 1540 والمتوفي في بلدة بريسجيا عام 1609 . وورد في ص 479 من الموسوعة الثقافية إشراف د. حسين سعيد (مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر 1972 ): ان الربابة آلة قديمة وترية انتقلت إلى أوروبا من عرب الأندلس وتطورت إلى الكمان.
* الجذور التاريخية لنغم الربابة:
* ويقول الجعيثن عن الربابة (الآلة الوترية) لم أجد مصدراً أوفى من هذه الآلة دراسة وبحثاً في معرض من أشاروا لها، وبالتالي واجهتني صعوبة بالغة في تحديد الزمن الذي وجدت فيه هذه الآلة لأن جل ما كتب عنها لا يتعدى كونها طرب تقليدية مجهولة الزمان والمكان، وإذا توسع احدهم في بحثه وصفها مقتضباً. ولذلك ترك الدارسون علامات استفهام عديدة حيال هذه الآلة الوترية التي يقول أهل الجزيرة العربية: إن صوتها هو الصوت الوحيد المشابه لصوت الإنسان، ولأن المصادر شحت بمعلومة وافية عن ذلك اتجهت إلى تدوين الرواية الشفوية المعتمدة على الأسطورة ولو أنها تفتقر إلى إقامة الدليل، وعلى سبيل المثال أسطورة أبي زيد الهلالي وعلياء والثعبان. وان أدركنا أن التغريبة الهلالية بدأت في القرن السابع وما بعده ثبت بطلان هذه الأسطورة الشائعة عند أهل الجزيرة العربية لأن الحسين بن زيد المتوفي عام 440 هـ وهو احد تلامذة ابن سينا قال: «الربابة هي أكثر من غيرها محاكاة للحن وتناسقاً معه» والربابة غير الرباب، ويقال أن نيرون بعد إحراق روما عزف على الرباب وذلك في عام 64 م، وكذلك استعملها العبرانيون والمماليك والسومريون والكنعانيون والفراعنة إلا أن المصادر الفنية المصرية تؤكد أن الطنبور هو الشائع والطنبور المصري له وتران أما الربابة فقد شاع استعمالها في مصر مع عرب الجنوب بني هلال. والتغريبة الأولى بعد القرن الثاني الهجري التي دخلت حضارة النيل ومعها بطن من سليم ولم يفترقوا إلا في برقة. المهم أن المصادر المصرية تؤكد أن الربابة لعرب الجنوب قراطمة اليمن وإذا صح ذلك فالربابة عرفها العرب في اليمن قبل العود، (المزهر)، أو (البربط) لأن أشعارهم في الجاهلية جاءت خالية من الإشارة إلى العود. ومن الباحثين من يقول أن الربابة فرعونية، وهذا يؤكد أن حضارة النيل الفرعونية سبقت حضارة اليمن الفنية. ولعل الربابة هذبت عن الطنبور الفرعوني الذي يعمل بوترين، وأخذت عنه الربابة بحيث يصبح الوتر الثاني القوس، ولكن الربابة عرفت مع عرب الجزيرة العربية بعد الإسلام لأن الشعراء في الجاهلية الذين هم اشد بني البشر في حب النغم لم ترد في أشعارهم البتة ولم نعثر على ما يبطل هذا الرأي في المصادر العلمية. أما بالنسبة لما بعد القرن الثاني الهجري فقد أوردنا رأي الحسين بن زيد الذي عاش آخر القرن الثالث الهجري والثلث الأول من الرابع الهجري، والرأي مفاده: «أن الفن بلغ في عهد خلافة المأمون والمتوكل ذروته، وكان للمغنين مكانه رفيعة يأتي بعدها الضاربون على العود، أما الجارون على الربابة فقد كانوا أدنى مرتبة». وهذه أدلة قطعية تفيد بوجود الربابة بعد عصر صدر الإسلام، ومن ذلك نستنتج أن الجذور التاريخية قديمة جداً كقدم الطنبور والشبابة، ولكن عرب الجزيرة عرفوا الربابة بدءاً من القرن الثاني الهجري بشكلها الحالي ذات الوتر الواحد، ولعل بداية القرن الثالث الهجري تعتبر البداية الحقيقية لانتشار الربابة الحالية.
* الربابة في اللغة
* الربابة بفتح الراء أي (رَبابة) وتعني السحابة البيضاء أو السوداء وجمعها (رباب) أي قطع السحاب غير المتجمع دون السحاب أو تحت السحاب المتجمع ومن أحسن ما قيل في وصف السحاب الرباب (السحاب غير المتجمع) قول عبد الرحمن بن حسان: كأن الرباب دُوَيْن السحاب.
* نعام تعلق بالأرجل
* وكذلك تعني كلمة (ربَابة) الآلة الموسيقية الوترية التي نحن بصدد الكلام عنها. والربابة: الجلدة التي تجمع فيها السهام: وقيل سلفه يعصب بها على يد الرجل المريضة، واسم الربابة مشتق من هذا المعنى اللغوي. والعوام يقولون أن الجلد شد بالسبيب ـ شعر ذيل الخيل ـ من اجل ربطه على خشب الدف وكان ما تطاير منه واحد اطرافه مشدود عبثاً على وجه الجلد وهو مشدود فأحدث نغمة وأعادوا الكرة وقالوا ربا الصوت وسميت ربابة، ورأى آخر مفاده أن الجلد شد عليه الجلد، وربا صوته وشد عليه (السبيب) وقالوا ربا، أي النغم به، لتنطق (ربابة).
* مناطق انتشار الربابة
* بطبيعة الحال أخذت الربابة عدة أشكال مختلفة وهي آلة موسيقية وترية قديمة من ذات الاذرع الطويلة عرفها المصريون وأهل اليمن والهند والاسرائيليون وأطلق عليها المصريون اسم (النور) وقالوا أنها من نوع الروباب، وعرب الجزيرة العربية نقلوها إلى أوروبا عبر الأندلس وطوروها. والعزف على الربابة فن صحراوي عرف مع أبناء البادية الرحل ونقلها بنو هلال عبر مسيرتهم إلى مصر وتونس والمغرب وأفريقيا مؤخراً. وأصبحت الربابة الفن التقليدي الأول لأبناء الصحراء الرحل، ولو أن الاهتمام بها في الجزيرة العربية يبلغ ذروته في شمال الجزيرة العربية أي في سورية والأردن والعراق وشمال المملكة وكلما اتسعت رقعة الصحاري كبر شأن الاهتمام بهذه الآلة، وفي مطلع القرن الخامس عشر الهجري وبعد ازدهار الحركة الفنية المعاصرة ولولعي بالأدب الشعبي واصلت متابعة الرحلات من اجل أن اطلع على الأدب الشعبي في البلدان العربية وبالتالي اعرف الشيء الكثير عن الربابة وقد قابلت عرب السودان (الرشايدة) وادركت أن هذه الآلة الوترية سائدة ولا تختلف عن الربابة السعودية المعاصرة إلا في شكل الصندوق الخشبي أو طول الذراع أو قصره وكذلك مع الحويطات وجهينة من عرب مصر. وبالنسبة لعرب بادية مصر فالاختلاف يبرز في طول العيدان وكذلك عرب تونس لاحظت في آلاتهم صغر الحجم والربابة المغربية في صحراء المغرب لها أشكال مختلفة اقربها إلى ربابة عرب الجزيرة ربابة البربر، أما الربابة في شمال السعودية وسوريا والأردن والعراق فشكلها تقريباً واحد.
صوت عربي معبر صحبت الشعراء والسُّمار وتكلمت بلغتهم.. وكانت أساسا لآلة الكمان الغربية
عرف العربي الربابة منذ القدم فقد كانت هذه الآلة الوترية البدائية الخالية من التعقيد رفيقة ابن الصحراء في حله وترحاله، فقد حملها معه وهو يقطع تلك الفيافي والمغازات على امتداد الصحراء على اقدامه أو على راحلته وبين إبله وأغنامه، وفي محطات استراحته تحت ظل شجرة أو على كثيب رملي أو على صخرة ظللها جبل شاهق، يبدأ بمعاشرتها ليتمازج صوت حنجرته مع وتر الربابة وينشأ بينهما إيقاع من نوع خاص مما يمكن القول أن الربابة صوت عربي معبر صحبت الشعراء والسُّمار، وتكلمت بلغتهم وأمدتهم بصوت إضافي وبإيقاع تحفيزي. وفي أول دراسة من نوعها عن الاثنولوجيا لربابة عرب الجزيرة يضع الصحفي والشاعر الشعبي السعودي راشد بن محمد بن جعيثن القراء أمام عمل يذكرهم بصوت نسوه وبوجه أضاعوه وبتاريخ تغافلوا عنه كما عبر عن ذلك مقدم الدراسة الناقد الدكتور عبد الله الغذامي. الزميل بدر الخريف من مكتب "الشرق الأوسط" بالرياض رصد ابرز ما جاء في هذه الدراسة عن الربابة وتاريخها ومكوناتها وكيفية صنعها وأوقات عزفها وابرز مؤديها فكانت هذه الحصيلة. بداية يشدد الدكتور عبد الله الغذامي الناقد والأديب السعودي المعروف على القول بان العلاقة بين الربابة والشعر هي علاقة عضوية، والأمر لا يقف عند مجرد المصاحبة الحسية، ولكن القضية تتسع لتشمل وجود التمثيل الثقافي للإنسان معتبراً أن الربابة صوت عربي معبر، صحبت الشعراء والسمار وتكلمت بلغتهم وأمدتهم بصوت إضافي وبإيقاع تحفيزي. ويقول الغذامي في مقدمته لأول دراسة من نوعها عن الاثنولوجيا لربابة عرب الجزيرة لمؤلفه الصحفي والشاعر السعودي راشد بن محمد بن جعيثن ان المؤلف في كتابه هذا يتصدى لقضية مهمة، وهي مهمة لا بمعنى أنها مفيدة وضرورية إذ أن كل معرفة علمية مهما كانت هي بالضرورة مهمة، إذا حصرنا الأهمية على الإفادة والضرورة، غير أني هنا اصف القضية بالأهمية بمعنى ينطوي على اشكال ثقافي، إضافة إلى ما فيه من بعد أكاديمي ومعرفي. هذا الإشكال الذي المح إليه، هو ارتكاب أمة من الأمم عمليات مسح لذاكرتها ولصوتها، مسح بمعنى الإلغاء أو التغييب. ويضيف الغذامي ونحن لو تلفتنا حولنا، وتبصر الواحد منا حاله، ما بين طفولته وما بين واقعه الفاعل الآن، لرأينا مقدار ما نسيناه ـ أو فقدناه ـ من صوت ومخيال كان لنا في الطفولة ثم غاب عن حياتنا الآن. فالألعاب والأحاديث والأهازيج التي كانت تطبع حياتنا لم تعد حاضرة في واقعنا الآن حتى لقد بلغ الأمر أن صرنا نعزلها عن مجال ثقافتنا ونصفها بالشعبية أو القديمة أو أهازيج أيام زمان وبذا فإننا نطويها ونطردها من عالمنا الحسي ومن ذاكرتنا الحية. هذا فعل طمس ومسح متعمد يحدث منا بقصد وتخطيط، هو فعل مضاد: ضد الذاكرة وضد الصوت وبالتالي ضد الحياة وضد التاريخ. إن إلغاء الصوت سيكون إلغاء للتاريخ وقتلاً للذاكرة، والمرء الذي بلا تاريخ سوف يصبح مسخاً لأنه بلا صوت وبلا هوية. كم نحن عدائيون وإرهابيون ضد أنفسنا حينما نلغي مخيالنا وصوتنا الذي توالدت أيامنا الأولى عليه. ان هذا يشبه حالة رجل قطع حباله الصوتية فصار ابكم وقد خلقه الله فصيحاً. ان فصاحتنا هي التعبير الحر والصادق عن ذواتنا وعن حالنا، ولسوف نفقد فصاحتنا، ان نحن فقدنا صوتنا الذي انكتبت به وفيه حياتنا في النشأة والمنطلق.
* صوت معبر
* وهنا تأتي الربابة بوصفها صوتاً معبراً، وبوصفها (لغة) كاملة التمثيل والتعبير. ويشير الناقد الغذامي إلى انه إذا كان للصوت سلطانه في القوة والتأثير وله مداه في التمدد والتماهي فان الربابة في ثقافتنا تأتي بوصفها صوتاً مصاحباً لصوت اللغة، وتقوم الربابة على وترين، مثلما يقوم الصوت البشري على حبلين صوتيين. واحد الأوتار ثابت في الربابة، والثاني متحرك مع يد الشاعر، وبدا يتضافر الصوت مع حركة اليد، فتتصاعد لغة الجسد مع اللغة الطبيعية في تحفيز المنشد وتنشيط التعبير. تتكلم الربابة وتتحرك مع المنشد فتصبح جزءاً عضوياً في عملية الفعل الإبداعي، وهذا ما جعل أهلنا في البادية يعاشرون الربابة ويتآخون معاً في وحدة كاملة في البراري والظلمات حيث تتوالد الأصوات حرة طليقة وتتدفق حياة البدوي عبر حنجرته في شعر سيال، وعبر الربابة في صوت منساب، ويتمازج الصوتان من الحنجرة ومن الوتر وينشأ إيقاع اللغة مع إيقاع البيئة بنجومها في وجه السماء مع حركة النسائم على وجه الأرض وتتواثب حبات الرمل طرية تتراقص على ايقاعات اللغة المتقاطرة شعراً ونغماً. لقد أحس الاعراب بقيمة الربابة وأدركوا صوتها وجاذبيته، فاتخذوها رفيقاً وأنها لرفيق كريم تمنح نفسها لرفيقها فتعطيه الصوت والإيقاع وتحفز حسه الإبداعي إلى أن يتفجر الشعر وينساب النص مثل هطول المطر. لذا فان العلاقة بين الربابة والشعر هي علاقة عضوية والأمر لا يقف عند مجرد المصاحبة الحسية، ولكن القضية تتسع لتشمل وجوه التمثيل الثقافي للإنسان. والربابة عنصر من عناصر هذا التمثيل للإنسان العربي ولقد مر زمن كان العربي (البدوي) لا يسير من دون ربابته، وان كان الجاحظ يجعل العصا شارة على العربي، فإننا نرى أن الربابة ايضاً تمثل شارة أخرى، تجاري العصا وتماثلها، وان فقداننا لعادة حمل العصا وعادة اصطحاب الربابة لهو صورة من صور فقداننا لصوتنا العربي التمثيلي. ويضيف الدكتور الغذامي إننا نفقد ذاتنا العربية بتدريج بطئ، ولكنه فقدان فادح لأننا لا نعوض المفقود ولا نبتكر صوتاً بديلاً عن الصوت المفقود، وبذا فإننا مجتمع من الخرس والبكم، مجتمع بلا صوت. ولو نظرنا حولنا وتصفحنا أيام حياتنا لوجدناها خلواً من أي احتفالية صوتية، ولولا مناسبة يتيمة تمر علينا سنوياً في الجنادرية لقلت إننا قد فقدنا حسنا الصوتي ايضاً ولم نعد نحس أو نشعر بأصواتنا وكأننا شخوص في أفلام صامتة، أو كأنما قد أصبحنا مثل جماعات النمل، نتحرك بصمت مطبق، ولا نعرف عن الشوارع والطرقات إلا أنها معابر نعبر منها مسرعين لنصل إلى بيوت جعلناها مخابئ نقبع فيها، وجفت الحياة العامة عندنا ومات الشارع في مجتمعنا وماتت الميادين والأسواق حتى لتبدو حياتنا للناظر إليها وكأنها حياة عابري سبيل، أقوام لا تربطهم بالمكان رابطة ولا يتصلون ببعض بأي صلة. هذا هو ممات الصوت أو موت المكان، واستعير هذا التعبير من الدكتور احمد الضبيب الذي أطلق هذه العبارة في معرض حديث أخر مختلف، ولكن التعبير يصدق على حالنا هذه أيضاً. ان الربابة صوت عربي معبر صحبت الشعراء والسمار وتكلمت بلغتهم وأمدتهم بصوت إضافي وبإيقاع تحفيزي، وجاء كتاب بن جعيثن ليذكر قراءه بصوت نسوه، وبوجه أضاعوه، وبتاريخ تغافلوا عنه.
* الآلة البدائية أرجعت شاعرة أميركية إلى عروبتها
* وحينما جاءت الشاعرة الماز أبي نادر إلى لبنان، وجدت نفسها أمام ذلك الصوت فثارت فيها رياح القصيدة، وكتبت نصاً بعنوان «الموسيقى العربية» وكأنها تقصد أن تقول: «الصوت العربي» فهي سمعت الربابة لأول مرة في حياتها مما سبب لدمائها العربية القديمة أن تتحرك وتنبض شعراً وقصيداً، وظهرت الدماء العربية من تحت اللسان المهاجر، وانكشف الصوت العربي المتواري تحت الجنسية الاميركية، ولم تعد ألماز شاعرة اميركية من اصل عربي، ولكنها صارت أذناً عربية تتفاعل مع صوت عربي، أدركت فيه جذورها القديمة وثقافتها المطمورة وكانت الربابة لألماز هي الصوت المنبه الذي أيقظها من هجرة الروح، وأشعل فيها عروبتها، فراحت تخاطب هذا الصوت بعقيدتها تلك.
* الكمنجة من الربابة
* ويشير راشد بن جعيثن في أول دراسة من نوعها عن الاثنولوجيا لربابة عرب الجزيرة انه في خضم اهتمام الدول الأوروبية بعلم الأطالس الفولكلورية لم تدخل الربابة عالمها الذي بدأ الاهتمام به في ألمانيا على يد العالم الألماني فيلهلم مانهارت في أول محاولة لجمع التراث الشعبي الألماني من اجل أن تتضح الصورة أكثر لعلم فن هذه الآلة الوترية البدائية، التي لم نقف على تاريخ يحدد اختراعها، هذه الآلة التي فتحت آفاقاً أمام مخترعي الآلات الوترية، الآلة التي هذبت عنها الكمنجة المقتبسة من آلة الرباب بعد انتقالها إلى أسبانيا كحضارة فنية تبعت الفتح الإسلامي بالأندلس وقد هذب عنها الغربيون أسرة لأربع آلات وترية هي: الكمان، والفيولا، والشيلو، والكونتر باص. وقد صنعوها بمقاييس هندسية لتصبح المنهج الموسيقي الجديد لعزف السمفونيات، والكونشرتو وذلك بعدما عرف الايطاليون الرباب وهذبها الفنان الإيطالي كاسباري بيرتولوي المولود في بلدة سالو عام 1540 والمتوفي في بلدة بريسجيا عام 1609 . وورد في ص 479 من الموسوعة الثقافية إشراف د. حسين سعيد (مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر 1972 ): ان الربابة آلة قديمة وترية انتقلت إلى أوروبا من عرب الأندلس وتطورت إلى الكمان.
* الجذور التاريخية لنغم الربابة:
* ويقول الجعيثن عن الربابة (الآلة الوترية) لم أجد مصدراً أوفى من هذه الآلة دراسة وبحثاً في معرض من أشاروا لها، وبالتالي واجهتني صعوبة بالغة في تحديد الزمن الذي وجدت فيه هذه الآلة لأن جل ما كتب عنها لا يتعدى كونها طرب تقليدية مجهولة الزمان والمكان، وإذا توسع احدهم في بحثه وصفها مقتضباً. ولذلك ترك الدارسون علامات استفهام عديدة حيال هذه الآلة الوترية التي يقول أهل الجزيرة العربية: إن صوتها هو الصوت الوحيد المشابه لصوت الإنسان، ولأن المصادر شحت بمعلومة وافية عن ذلك اتجهت إلى تدوين الرواية الشفوية المعتمدة على الأسطورة ولو أنها تفتقر إلى إقامة الدليل، وعلى سبيل المثال أسطورة أبي زيد الهلالي وعلياء والثعبان. وان أدركنا أن التغريبة الهلالية بدأت في القرن السابع وما بعده ثبت بطلان هذه الأسطورة الشائعة عند أهل الجزيرة العربية لأن الحسين بن زيد المتوفي عام 440 هـ وهو احد تلامذة ابن سينا قال: «الربابة هي أكثر من غيرها محاكاة للحن وتناسقاً معه» والربابة غير الرباب، ويقال أن نيرون بعد إحراق روما عزف على الرباب وذلك في عام 64 م، وكذلك استعملها العبرانيون والمماليك والسومريون والكنعانيون والفراعنة إلا أن المصادر الفنية المصرية تؤكد أن الطنبور هو الشائع والطنبور المصري له وتران أما الربابة فقد شاع استعمالها في مصر مع عرب الجنوب بني هلال. والتغريبة الأولى بعد القرن الثاني الهجري التي دخلت حضارة النيل ومعها بطن من سليم ولم يفترقوا إلا في برقة. المهم أن المصادر المصرية تؤكد أن الربابة لعرب الجنوب قراطمة اليمن وإذا صح ذلك فالربابة عرفها العرب في اليمن قبل العود، (المزهر)، أو (البربط) لأن أشعارهم في الجاهلية جاءت خالية من الإشارة إلى العود. ومن الباحثين من يقول أن الربابة فرعونية، وهذا يؤكد أن حضارة النيل الفرعونية سبقت حضارة اليمن الفنية. ولعل الربابة هذبت عن الطنبور الفرعوني الذي يعمل بوترين، وأخذت عنه الربابة بحيث يصبح الوتر الثاني القوس، ولكن الربابة عرفت مع عرب الجزيرة العربية بعد الإسلام لأن الشعراء في الجاهلية الذين هم اشد بني البشر في حب النغم لم ترد في أشعارهم البتة ولم نعثر على ما يبطل هذا الرأي في المصادر العلمية. أما بالنسبة لما بعد القرن الثاني الهجري فقد أوردنا رأي الحسين بن زيد الذي عاش آخر القرن الثالث الهجري والثلث الأول من الرابع الهجري، والرأي مفاده: «أن الفن بلغ في عهد خلافة المأمون والمتوكل ذروته، وكان للمغنين مكانه رفيعة يأتي بعدها الضاربون على العود، أما الجارون على الربابة فقد كانوا أدنى مرتبة». وهذه أدلة قطعية تفيد بوجود الربابة بعد عصر صدر الإسلام، ومن ذلك نستنتج أن الجذور التاريخية قديمة جداً كقدم الطنبور والشبابة، ولكن عرب الجزيرة عرفوا الربابة بدءاً من القرن الثاني الهجري بشكلها الحالي ذات الوتر الواحد، ولعل بداية القرن الثالث الهجري تعتبر البداية الحقيقية لانتشار الربابة الحالية.
* الربابة في اللغة
* الربابة بفتح الراء أي (رَبابة) وتعني السحابة البيضاء أو السوداء وجمعها (رباب) أي قطع السحاب غير المتجمع دون السحاب أو تحت السحاب المتجمع ومن أحسن ما قيل في وصف السحاب الرباب (السحاب غير المتجمع) قول عبد الرحمن بن حسان: كأن الرباب دُوَيْن السحاب.
* نعام تعلق بالأرجل
* وكذلك تعني كلمة (ربَابة) الآلة الموسيقية الوترية التي نحن بصدد الكلام عنها. والربابة: الجلدة التي تجمع فيها السهام: وقيل سلفه يعصب بها على يد الرجل المريضة، واسم الربابة مشتق من هذا المعنى اللغوي. والعوام يقولون أن الجلد شد بالسبيب ـ شعر ذيل الخيل ـ من اجل ربطه على خشب الدف وكان ما تطاير منه واحد اطرافه مشدود عبثاً على وجه الجلد وهو مشدود فأحدث نغمة وأعادوا الكرة وقالوا ربا الصوت وسميت ربابة، ورأى آخر مفاده أن الجلد شد عليه الجلد، وربا صوته وشد عليه (السبيب) وقالوا ربا، أي النغم به، لتنطق (ربابة).
* مناطق انتشار الربابة
* بطبيعة الحال أخذت الربابة عدة أشكال مختلفة وهي آلة موسيقية وترية قديمة من ذات الاذرع الطويلة عرفها المصريون وأهل اليمن والهند والاسرائيليون وأطلق عليها المصريون اسم (النور) وقالوا أنها من نوع الروباب، وعرب الجزيرة العربية نقلوها إلى أوروبا عبر الأندلس وطوروها. والعزف على الربابة فن صحراوي عرف مع أبناء البادية الرحل ونقلها بنو هلال عبر مسيرتهم إلى مصر وتونس والمغرب وأفريقيا مؤخراً. وأصبحت الربابة الفن التقليدي الأول لأبناء الصحراء الرحل، ولو أن الاهتمام بها في الجزيرة العربية يبلغ ذروته في شمال الجزيرة العربية أي في سورية والأردن والعراق وشمال المملكة وكلما اتسعت رقعة الصحاري كبر شأن الاهتمام بهذه الآلة، وفي مطلع القرن الخامس عشر الهجري وبعد ازدهار الحركة الفنية المعاصرة ولولعي بالأدب الشعبي واصلت متابعة الرحلات من اجل أن اطلع على الأدب الشعبي في البلدان العربية وبالتالي اعرف الشيء الكثير عن الربابة وقد قابلت عرب السودان (الرشايدة) وادركت أن هذه الآلة الوترية سائدة ولا تختلف عن الربابة السعودية المعاصرة إلا في شكل الصندوق الخشبي أو طول الذراع أو قصره وكذلك مع الحويطات وجهينة من عرب مصر. وبالنسبة لعرب بادية مصر فالاختلاف يبرز في طول العيدان وكذلك عرب تونس لاحظت في آلاتهم صغر الحجم والربابة المغربية في صحراء المغرب لها أشكال مختلفة اقربها إلى ربابة عرب الجزيرة ربابة البربر، أما الربابة في شمال السعودية وسوريا والأردن والعراق فشكلها تقريباً واحد.