عساف دخنان
22/02/08, (04:10 PM)
بسم الله الرحمن الرحيم
ثالثاً : شالح بن هدلان
نسبه – مكانته في قومه – فروسيته – أخوه الفديع – شجاعته – الالفه بينه وبين أخيه – تبادل الشعر بينهما – قتل الفديع وحزن شالح عليه – أبناء شالح – قتل عبيد بن حميد في ثأر الفديع – الشعر بين شالح والجمدة حول ذلك – بروز ذيب بن شالح وفروسيته النادره – شعره – لطفه مع أبيه –كسبه لجواد نادر – أبوه يبكيه حياً – القبائل تتحاشى الأغاره على قومه خوفاً منه – اغارة الملك عبدالعزيز على ظعينة والده – دفاعه المستميت دونها – شعر والده في ذلك – قتل ذيب وحزن والده عليه وشعره في رثائه – كيف قتل ؟ الهويدي وطيره وشعر شالح فيه .. الخ ...
هو الفارس شالح بن حطاب بن هدلان ، نشأ بين أفراد قبيلة الخنافره التي هي فخذ من قبيلة آل محمد القحطانيه ، وعاش الى سنة 1340هـ تقريباً ، وكان مثالياً بشجاعته وأمانته وصدقه وحسن أخلاقه وكرمه ووفاءه ، وكان يحكم لحل المشاكل سواء كانت على مستوى قبلي أو فردي ، وكان محبوباً عند قبائل قحطان وعند القبائل الآخرى 0 نشأ شالح بين أفراد قبيلة الخنافره ، وكان له أخ يسمى الفديع كان أصغر منه كثيراً ، شقيقاً له ، وكان مثالياً بشجاعته وأخلاقه ، ويماثل أخاه شالح في كل شئ ، الا أنه كان مغامراً بفروسيته الى أبعد الحدود ، وكان وفياً مع أخيه شالح ، وخادماً اميناً له ، يرى أن تفانيه في خدمة أخيه الأكبر فضيلة من الفضائل لا يعادلها شئ ، وبعد كملت رجولته تحمل كل مشاق الحياة عن أخيه شالح وأصبح هو حامي ظعينتهم ، وكانت ابلهم لا تذهب للمرعى الا وهو معها مدججاً بالسلاح على صهوة جواده ، وكان حصناً حصيناً لها ، ولأبل الحي ، ولا يخطر ببال أي عدو أن يغير عليها مادام الفديع عندها ، وأذا تجرأ أحد من الأعداء وأغار عليها فلا بد أن يرجع مدحوراً ، وذات يوم مع بزوغ الشمس ، وأخوه شالح جالس حول ناره يحتسي القهوة 00 ألتفت الي الأبل وهي في مباركها قرب البيت رآها تعتب بعقلها ولم يرى الفديع ، فنادى شالح قائلاً : الأبل تعتب بعقلها والفديع غائب عنها أين هو ؟ فقيل له : أن زوجتك تنظف رأسه أي تغسله وترجله داخل البيت ، فقام غاضباً ورأى زوجته تغسل رأس أخيه كعادتها فقال : الأبل حائره في مباركها ولم تذهب للمرعى وأنت عند النساء تغسل رأسك ، فأخذ من التراب ووضعه على راس أخيه ، فقام الأخ البار خجلاً من أخيه وأخذ يمسح التراب عن رأسه ، وهو يردد كلمته العفو يا أخي ، ثم طلب من زوجة أخيه أن تسرج جواده ، وتحضر سلاحه ، وذهب للأبل مسرعاً ، وأخذ يطلق عقالها ، أما شالح فقد رجع الى قهوته ، وجلس من حولها ، وعندما أطلق الفديع عقل الأبل رجع وأخذ سلاحه ولبس عدته ، ثم أتى الى أخيه يمشي بحذر وبخفه متناهية من حيث لايشعر به فقبل رأسه وقبل مابين عينيه ، وقال : في أمان الله يا أخي 0 وركب جواده وأتبع أبله ، التي لا يطمئن شالح الا بوجود أخيه معها 0 وعندما رجع الفديع بعد غروب الشمس أتى الى أخيه شالح وسلم عليه ، وقبل ما بين عينيه ، وجلس في مكان أخيه عند القهوه ، وأخذ يصب لأخيه شالح ، ويقص عليه أخبار يومه الفائت ، ويداعبه بالنكت المضحكه ، ويحاول أن يثبت لأخيه شالح أنه لا يحمل في نفسه عليه أي عتب ، وأنه لم يغتظ من حثو التراب على رأسه ، وكل ما يهمه هو أن يكون أخوه راضياً عنه ، وكان الفديع على عادته آتياً بعدد من الغزلان أصطادها بالفلا فأخذ يقدم لأخيه من طيب لحمها ، وعندما أراد شالح أن يأوي الى مضجعه ، همست زوجته بأذن الفديع وقالت : أن الماءالذي عندنا نفذ ، ولا بد أن أخاك عندما ينتبه من نومه سيطلب ماء للقهوة ، وسأخبره أنه لا يوجد عندنا ماء ، فقال الفديع : الحذر أن يعلم أخي بذلك وطلب منها أن تذهب لأحد الجمال وتنيخه بعيداً عن الأبل وتضع رحله عليه وأن تضع عليه مزادتين وركب الفديع جواده ، وأستاق الجمل أمامه ، وراح يبحث عن منهل يستقي منه الماء ، وعند طلوع الفجر الأول ، وقبل أن يستيقظ أخوه عاد محملاً الجمل بالماء ، وحط الرحل وسكب من الماء في دلال أخيه لتكون جاهزه لأعداد القهوة عندما يستيقظ ، ونام هو قليلاً الى قبل طلوع الشمس ، وقام كعادته وصبح أخاه بالخير ، وأنطلق بأبله كعادته للفلا ، وبعد ذلك أسرت أمرأة شالح لزوجها بما فعله الفديع ، وعندما عاد الفديع بعد غروب الشمس ، وسلم على أخيه وجلس عنده ، لاحظ الفديع أن أخاه شالحاً كثير التفكير ، ومشدوه البال ، فسأله قائلاً : ما بك هذه الليلة ، عسى أن لا تشكو من ألم ؟ أخبرني لأن ما رأيته من تفكيرك أساءني ؟ فقال : ياأخي ليس بي شيئ الا أنني أفكر في حالتك لأنني أتعبتك في هذه الدنيا ، وأنت وحدك متحمل مشاق هذه الحياة ، وكل أيامك وأنت على صهوة جوادك ، وأنا أعرف أن هذا شئ يضني 0 وكم أود أن يكون أبنائي كبارا ليساعدونك ويخدموك ، ولكنك أنت متكفل بهذه العائلة الكبيرة 0 فقال الفديع : أنا سعيد بأن أقوم بخدمتك ، وكل ما أوده بهذه الحياة أن أكون وفياً معك ، وأن أحوز رضاك ، وأن أخدمك كما يجب علي ، وأن لا يحصل مني شئ يكون سبباً في أزعاجك 0وأنشد
:
يا بو ذعار أكفيك لوني لحالي = وأصبر على الدنيا وباقي تعبها
وأن غم أخوه معثرين العيالي = أنا لخويه سعد عينه عجبها
وأن جن مثل مخزمات الجمالي = كم سابقٍ تقزي وأنا من سببها
كم خفرةٍ قد حرمت للدلالي = لبست سوادٍ عقب لذة طربها
وأن جيت لي قفرٍ من النشر خالي = يفرح بي الحواز يوم أقبل بها
أفديك يا شالح بحالي ومالي = يا فارس الفرسان مقدم عربها
يا متيه أبله بروس المفالي = ياللي حميت حدودها يا جنبها
قال هذه الأبيات لأخيه فتأثر شالح بها ، وأجابه بهذه القصيده :
لا واخوٍ لي عقب فرقاه باضيع = كني بما يجري على العمر داري
أخوي يا ستر البني المفاريع = ومطلق لسان الي بأهلها تماري
ما قط يومٍ شد بين الفراريع = يا كود ما بين الكمي والمشاري
ليته عصاني مرةٍ قال ما طيع = كود أني أصبر يوم تجري الجواري
أنا أشهد أنه لي سريع المنافيع = عبدٍ مليك لي ولاني بشاري
تشهد عليه مناتلات المصاريع = وأعداه من كفه تشوف العزاري
يمناه تنثر من دماهم قراطيع = وعوق العديم اللي بدمه يثاري
جداع سفرين الوجيه المداريع = مخلي سروج الخيل منهم عواري
القلب ما ينسى بعيد المناويع = ليثٍ على صيد المشاهير ضاري
وكأن شالحاً قد توقع بهذه القصيده مستقبل أخيه الفديع ، لأن الفديع كان مغامراً بقتاله ، وكان أخوه شالح يخشى عليه دائماً من مغامراته ، لأنه يراه هو كل شئ بالنسبة له ، وكان يفضله على نفسه ، ويفاخر به عند القبائل ، وذات يوم كان شالح راحلاً بظعينته ، وكان أخوه الفديع أرمد العينين ، وجواده يقاد مع الظعينه ، وهو في هودج ، معصوبة عيناه ، فأغار على ظعينتهم كوكبة من الخيل ، وتبين لهم أن هذه الخيل المغيرة هي خيل الحمدة زعماء قبيلة عتيبه ، الشجعان المشهورين بالفروسية ، والذين يضرب المثل بشجاعتهم ، فأخذ شالح وحده يدافع عن الظعينة بكل بسالة ، وكان الحرب بينه وبين المغيرين سجالاً ، فمره يهزمهم ويبعدهم عن الظعينة ، ومره يكثرون عليه ويهزمونه الى أن يصل الى ظعينته ، ثم تتصاعد صيحات النساء ، وزغاريدهن حافزات له على القوم ، فيلقى القوم بقلب أقوى من الحديد ، الى أن يبعدهم عن الظعينة ، فطال القتال وهم على هذا المنوال ، وقد لاحظت والدة شالح والفديع ، أن شالح أعياه الطراد ، فنزلت من هودجها وأسرجت جواد الفديع الأصفر ، وأحضرت سلاحه ، وقالت : أنزل وهب لمساعدة أخيك ، لأن القوم سيغلبونه 0 فقال : يا أماه أنا أذوب كمداً وأحترق حسرة من حين سمعت غارة الخيل ، ولكن كيف أرى حتى أساعد أخي ؟ فقالت : أنا سأجعلك تبصر ، وكان متلهفاً لأن يرى بعينيه ، حتى يهب لمساعدة أخيه ، وعندما أنزلته أمه من الهودج أتت بماء وغسلت عينيه وأخذت تفتحهما بشدة ، ويقال أنه عندما أنفصل كل جفن عن الأخر نزل الدم والصديد معاً من عينيه ، فوثب كأنه النمر ، وركب جواده وهو لا يبصر الا قليلاً ، وكانت خيل الأعداء آتية بأخيه ، فستقبلهم الفديع المغامر غير مبال ، فجندل أول فارس ، ورجعت الخيل هاربة فجندل الآخر ثم جندل الثالث ، وعندما أنغمس بين الخيل ، رشقوه بعدد كثير من الرماح دفاعاً عن النفس ، فأصاب الفديع رمح أخترق رأسه فخر قتيلاً ، ولكن الأعداء أستمروا بالأدبار ، لأنه قد أعياهم القتال ، ونزل شالح عن جواده وقلب أخاه فاذا هو ميت ، وكانت نكبة موجعه لشالح وكانت لحظات ألم أحس وكأن خنجراً مزقت أحشاءه دون أن يستطع ايقاف ألمها الا بالدموع التي
تسابقت متناثرة على وجنتيه ، اللتين علاهما غبار المعركة ، وبعد أن قبل أخاه القبلة الأخيرة ، نظر الى ذلك الجبين المعفر بالتراب ، الذي طالما لامس الارض من خشية الله ، ونظر الى تلك العينين اللتين طالما سهرتا عليه الليالي الطوال ، ونظر الى ساعديه اللذبن طالما أنطلقت منهما الرماح لتصافح صدور الأعداء ، ذائدة عنه وعن محارمه وأمواله 00 وهكذا دارت الأفكار برأس الأمير المنكوب شالح ، ثم مسح التراب عن أخيه بكف مرتعشه ، وطبق جفنيه وأمر من حوله أن يكفنوه ، وكانوا في واد بنجد يسمى ( خفا ) وكان على جانب الوادي هضبة تسمى هضبة ( خفا ) فدفن الفديع على مقربة من هذه الهضبة 00 وهكذا طويت صفحة من التاريخ ، سجلت مثلاً رائعاً للشجاعة والوفاء وكيف كان بر الأخوين لبعضهما ، والمعاملة بينهما التي هي من شيم العرب وأحدى مفاخرهم 0
لقد رثا شالح أخاه بقطرات من دم قلبه في هذه المقطوعة :
أمس الضحى عديت روس الطويلات = وهيضت في راس الحجا ماطرا لي
وتسابقن دموع عيني غزيرات = وصفقت بالكف اليمين الشمالي
وجريت من خافي المعاليق ونات = والقلب من بين الصناديق جالي
واخوي ياللي يم قارة خفا فات = من عاد من عقبه بيستر خمالي
ليته كفاني سو بقعا ولا مات = وانا كفيته سو قبرٍ هيالي
وليته مع الحيين راعي الجمالات = وأنا فداً له من غبون الليالي
واخوي ياللي يوم الأخوان فلات = من خلقته ما قال : ذا لك وذا لي
تبكيه هجن تالي الليل عجلات = ترقب وعدها يوم غاب الهلالي
وتبكي على شوفه بني عفيفات = من عقب فقده حرمن الدلالي
عوق العديم ان جا نهار المثارات = والخيل من حسه يجيهن جفالي
ثالثاً : شالح بن هدلان
نسبه – مكانته في قومه – فروسيته – أخوه الفديع – شجاعته – الالفه بينه وبين أخيه – تبادل الشعر بينهما – قتل الفديع وحزن شالح عليه – أبناء شالح – قتل عبيد بن حميد في ثأر الفديع – الشعر بين شالح والجمدة حول ذلك – بروز ذيب بن شالح وفروسيته النادره – شعره – لطفه مع أبيه –كسبه لجواد نادر – أبوه يبكيه حياً – القبائل تتحاشى الأغاره على قومه خوفاً منه – اغارة الملك عبدالعزيز على ظعينة والده – دفاعه المستميت دونها – شعر والده في ذلك – قتل ذيب وحزن والده عليه وشعره في رثائه – كيف قتل ؟ الهويدي وطيره وشعر شالح فيه .. الخ ...
هو الفارس شالح بن حطاب بن هدلان ، نشأ بين أفراد قبيلة الخنافره التي هي فخذ من قبيلة آل محمد القحطانيه ، وعاش الى سنة 1340هـ تقريباً ، وكان مثالياً بشجاعته وأمانته وصدقه وحسن أخلاقه وكرمه ووفاءه ، وكان يحكم لحل المشاكل سواء كانت على مستوى قبلي أو فردي ، وكان محبوباً عند قبائل قحطان وعند القبائل الآخرى 0 نشأ شالح بين أفراد قبيلة الخنافره ، وكان له أخ يسمى الفديع كان أصغر منه كثيراً ، شقيقاً له ، وكان مثالياً بشجاعته وأخلاقه ، ويماثل أخاه شالح في كل شئ ، الا أنه كان مغامراً بفروسيته الى أبعد الحدود ، وكان وفياً مع أخيه شالح ، وخادماً اميناً له ، يرى أن تفانيه في خدمة أخيه الأكبر فضيلة من الفضائل لا يعادلها شئ ، وبعد كملت رجولته تحمل كل مشاق الحياة عن أخيه شالح وأصبح هو حامي ظعينتهم ، وكانت ابلهم لا تذهب للمرعى الا وهو معها مدججاً بالسلاح على صهوة جواده ، وكان حصناً حصيناً لها ، ولأبل الحي ، ولا يخطر ببال أي عدو أن يغير عليها مادام الفديع عندها ، وأذا تجرأ أحد من الأعداء وأغار عليها فلا بد أن يرجع مدحوراً ، وذات يوم مع بزوغ الشمس ، وأخوه شالح جالس حول ناره يحتسي القهوة 00 ألتفت الي الأبل وهي في مباركها قرب البيت رآها تعتب بعقلها ولم يرى الفديع ، فنادى شالح قائلاً : الأبل تعتب بعقلها والفديع غائب عنها أين هو ؟ فقيل له : أن زوجتك تنظف رأسه أي تغسله وترجله داخل البيت ، فقام غاضباً ورأى زوجته تغسل رأس أخيه كعادتها فقال : الأبل حائره في مباركها ولم تذهب للمرعى وأنت عند النساء تغسل رأسك ، فأخذ من التراب ووضعه على راس أخيه ، فقام الأخ البار خجلاً من أخيه وأخذ يمسح التراب عن رأسه ، وهو يردد كلمته العفو يا أخي ، ثم طلب من زوجة أخيه أن تسرج جواده ، وتحضر سلاحه ، وذهب للأبل مسرعاً ، وأخذ يطلق عقالها ، أما شالح فقد رجع الى قهوته ، وجلس من حولها ، وعندما أطلق الفديع عقل الأبل رجع وأخذ سلاحه ولبس عدته ، ثم أتى الى أخيه يمشي بحذر وبخفه متناهية من حيث لايشعر به فقبل رأسه وقبل مابين عينيه ، وقال : في أمان الله يا أخي 0 وركب جواده وأتبع أبله ، التي لا يطمئن شالح الا بوجود أخيه معها 0 وعندما رجع الفديع بعد غروب الشمس أتى الى أخيه شالح وسلم عليه ، وقبل ما بين عينيه ، وجلس في مكان أخيه عند القهوه ، وأخذ يصب لأخيه شالح ، ويقص عليه أخبار يومه الفائت ، ويداعبه بالنكت المضحكه ، ويحاول أن يثبت لأخيه شالح أنه لا يحمل في نفسه عليه أي عتب ، وأنه لم يغتظ من حثو التراب على رأسه ، وكل ما يهمه هو أن يكون أخوه راضياً عنه ، وكان الفديع على عادته آتياً بعدد من الغزلان أصطادها بالفلا فأخذ يقدم لأخيه من طيب لحمها ، وعندما أراد شالح أن يأوي الى مضجعه ، همست زوجته بأذن الفديع وقالت : أن الماءالذي عندنا نفذ ، ولا بد أن أخاك عندما ينتبه من نومه سيطلب ماء للقهوة ، وسأخبره أنه لا يوجد عندنا ماء ، فقال الفديع : الحذر أن يعلم أخي بذلك وطلب منها أن تذهب لأحد الجمال وتنيخه بعيداً عن الأبل وتضع رحله عليه وأن تضع عليه مزادتين وركب الفديع جواده ، وأستاق الجمل أمامه ، وراح يبحث عن منهل يستقي منه الماء ، وعند طلوع الفجر الأول ، وقبل أن يستيقظ أخوه عاد محملاً الجمل بالماء ، وحط الرحل وسكب من الماء في دلال أخيه لتكون جاهزه لأعداد القهوة عندما يستيقظ ، ونام هو قليلاً الى قبل طلوع الشمس ، وقام كعادته وصبح أخاه بالخير ، وأنطلق بأبله كعادته للفلا ، وبعد ذلك أسرت أمرأة شالح لزوجها بما فعله الفديع ، وعندما عاد الفديع بعد غروب الشمس ، وسلم على أخيه وجلس عنده ، لاحظ الفديع أن أخاه شالحاً كثير التفكير ، ومشدوه البال ، فسأله قائلاً : ما بك هذه الليلة ، عسى أن لا تشكو من ألم ؟ أخبرني لأن ما رأيته من تفكيرك أساءني ؟ فقال : ياأخي ليس بي شيئ الا أنني أفكر في حالتك لأنني أتعبتك في هذه الدنيا ، وأنت وحدك متحمل مشاق هذه الحياة ، وكل أيامك وأنت على صهوة جوادك ، وأنا أعرف أن هذا شئ يضني 0 وكم أود أن يكون أبنائي كبارا ليساعدونك ويخدموك ، ولكنك أنت متكفل بهذه العائلة الكبيرة 0 فقال الفديع : أنا سعيد بأن أقوم بخدمتك ، وكل ما أوده بهذه الحياة أن أكون وفياً معك ، وأن أحوز رضاك ، وأن أخدمك كما يجب علي ، وأن لا يحصل مني شئ يكون سبباً في أزعاجك 0وأنشد
:
يا بو ذعار أكفيك لوني لحالي = وأصبر على الدنيا وباقي تعبها
وأن غم أخوه معثرين العيالي = أنا لخويه سعد عينه عجبها
وأن جن مثل مخزمات الجمالي = كم سابقٍ تقزي وأنا من سببها
كم خفرةٍ قد حرمت للدلالي = لبست سوادٍ عقب لذة طربها
وأن جيت لي قفرٍ من النشر خالي = يفرح بي الحواز يوم أقبل بها
أفديك يا شالح بحالي ومالي = يا فارس الفرسان مقدم عربها
يا متيه أبله بروس المفالي = ياللي حميت حدودها يا جنبها
قال هذه الأبيات لأخيه فتأثر شالح بها ، وأجابه بهذه القصيده :
لا واخوٍ لي عقب فرقاه باضيع = كني بما يجري على العمر داري
أخوي يا ستر البني المفاريع = ومطلق لسان الي بأهلها تماري
ما قط يومٍ شد بين الفراريع = يا كود ما بين الكمي والمشاري
ليته عصاني مرةٍ قال ما طيع = كود أني أصبر يوم تجري الجواري
أنا أشهد أنه لي سريع المنافيع = عبدٍ مليك لي ولاني بشاري
تشهد عليه مناتلات المصاريع = وأعداه من كفه تشوف العزاري
يمناه تنثر من دماهم قراطيع = وعوق العديم اللي بدمه يثاري
جداع سفرين الوجيه المداريع = مخلي سروج الخيل منهم عواري
القلب ما ينسى بعيد المناويع = ليثٍ على صيد المشاهير ضاري
وكأن شالحاً قد توقع بهذه القصيده مستقبل أخيه الفديع ، لأن الفديع كان مغامراً بقتاله ، وكان أخوه شالح يخشى عليه دائماً من مغامراته ، لأنه يراه هو كل شئ بالنسبة له ، وكان يفضله على نفسه ، ويفاخر به عند القبائل ، وذات يوم كان شالح راحلاً بظعينته ، وكان أخوه الفديع أرمد العينين ، وجواده يقاد مع الظعينه ، وهو في هودج ، معصوبة عيناه ، فأغار على ظعينتهم كوكبة من الخيل ، وتبين لهم أن هذه الخيل المغيرة هي خيل الحمدة زعماء قبيلة عتيبه ، الشجعان المشهورين بالفروسية ، والذين يضرب المثل بشجاعتهم ، فأخذ شالح وحده يدافع عن الظعينة بكل بسالة ، وكان الحرب بينه وبين المغيرين سجالاً ، فمره يهزمهم ويبعدهم عن الظعينة ، ومره يكثرون عليه ويهزمونه الى أن يصل الى ظعينته ، ثم تتصاعد صيحات النساء ، وزغاريدهن حافزات له على القوم ، فيلقى القوم بقلب أقوى من الحديد ، الى أن يبعدهم عن الظعينة ، فطال القتال وهم على هذا المنوال ، وقد لاحظت والدة شالح والفديع ، أن شالح أعياه الطراد ، فنزلت من هودجها وأسرجت جواد الفديع الأصفر ، وأحضرت سلاحه ، وقالت : أنزل وهب لمساعدة أخيك ، لأن القوم سيغلبونه 0 فقال : يا أماه أنا أذوب كمداً وأحترق حسرة من حين سمعت غارة الخيل ، ولكن كيف أرى حتى أساعد أخي ؟ فقالت : أنا سأجعلك تبصر ، وكان متلهفاً لأن يرى بعينيه ، حتى يهب لمساعدة أخيه ، وعندما أنزلته أمه من الهودج أتت بماء وغسلت عينيه وأخذت تفتحهما بشدة ، ويقال أنه عندما أنفصل كل جفن عن الأخر نزل الدم والصديد معاً من عينيه ، فوثب كأنه النمر ، وركب جواده وهو لا يبصر الا قليلاً ، وكانت خيل الأعداء آتية بأخيه ، فستقبلهم الفديع المغامر غير مبال ، فجندل أول فارس ، ورجعت الخيل هاربة فجندل الآخر ثم جندل الثالث ، وعندما أنغمس بين الخيل ، رشقوه بعدد كثير من الرماح دفاعاً عن النفس ، فأصاب الفديع رمح أخترق رأسه فخر قتيلاً ، ولكن الأعداء أستمروا بالأدبار ، لأنه قد أعياهم القتال ، ونزل شالح عن جواده وقلب أخاه فاذا هو ميت ، وكانت نكبة موجعه لشالح وكانت لحظات ألم أحس وكأن خنجراً مزقت أحشاءه دون أن يستطع ايقاف ألمها الا بالدموع التي
تسابقت متناثرة على وجنتيه ، اللتين علاهما غبار المعركة ، وبعد أن قبل أخاه القبلة الأخيرة ، نظر الى ذلك الجبين المعفر بالتراب ، الذي طالما لامس الارض من خشية الله ، ونظر الى تلك العينين اللتين طالما سهرتا عليه الليالي الطوال ، ونظر الى ساعديه اللذبن طالما أنطلقت منهما الرماح لتصافح صدور الأعداء ، ذائدة عنه وعن محارمه وأمواله 00 وهكذا دارت الأفكار برأس الأمير المنكوب شالح ، ثم مسح التراب عن أخيه بكف مرتعشه ، وطبق جفنيه وأمر من حوله أن يكفنوه ، وكانوا في واد بنجد يسمى ( خفا ) وكان على جانب الوادي هضبة تسمى هضبة ( خفا ) فدفن الفديع على مقربة من هذه الهضبة 00 وهكذا طويت صفحة من التاريخ ، سجلت مثلاً رائعاً للشجاعة والوفاء وكيف كان بر الأخوين لبعضهما ، والمعاملة بينهما التي هي من شيم العرب وأحدى مفاخرهم 0
لقد رثا شالح أخاه بقطرات من دم قلبه في هذه المقطوعة :
أمس الضحى عديت روس الطويلات = وهيضت في راس الحجا ماطرا لي
وتسابقن دموع عيني غزيرات = وصفقت بالكف اليمين الشمالي
وجريت من خافي المعاليق ونات = والقلب من بين الصناديق جالي
واخوي ياللي يم قارة خفا فات = من عاد من عقبه بيستر خمالي
ليته كفاني سو بقعا ولا مات = وانا كفيته سو قبرٍ هيالي
وليته مع الحيين راعي الجمالات = وأنا فداً له من غبون الليالي
واخوي ياللي يوم الأخوان فلات = من خلقته ما قال : ذا لك وذا لي
تبكيه هجن تالي الليل عجلات = ترقب وعدها يوم غاب الهلالي
وتبكي على شوفه بني عفيفات = من عقب فقده حرمن الدلالي
عوق العديم ان جا نهار المثارات = والخيل من حسه يجيهن جفالي